ما عن الحزن نُهيت

ما عن الحزن نُهيت

13 مايو 2019
+ الخط -
كان ذلك المدّاح ذو الصوت العذب والحضور الآسر مدخلي الطفولي إلى محبة النبي عليه الصلاة والسلام. كنت في التاسعة من عمري، حين سمعته في (مولد المرسي أبو العباس)، يحكي منشداً عن دموع سيدنا النبي التي سالت من أجل ظبية، رآها خلال مشيه في الصحراء وهي مقيدة، بعد أن وقعت في أسر صياد يهودي، وحين رأت النبي أنطقها الله فناشدت النبي وهي تبكي، أن يقنع الصياد اليهودي بتركها لتذهب لإطعام أولادها الصغار والاطمئنان عليهم، ثم تعود ثانية بطوعها إلى قبضة صيادها، وكما قال الراوي عذب الصوت اللا مبالي بالأخطاء اللغوية والمنطقية في حكايته: "فلما سمع النبي لكلامها.. بكى لحالها.. وقال يا يهودي.. أطلقها القيودي.. وأتركها تعودي.. وخذني مكانها.. حتى ترضع عيالها"، لتتعالى آهات النُظّارة مختلطة بالصلوات على أعظم نبي، واللعنات للصياد اليهودي الذي أسال أطهر دموع على أطهر خد.

كانت الحكاية تحمل كل عناصر الإثارة الدرامية اللازمة لتبقى في الوجدان فترة طويلة: ضحية مثالية هي الظبية الأم التي لا تبالي بمصيرها قدر مبالاتها بمصير أبنائها، وهو سلوك يكفي لإخماد كل الأسئلة التي قد تتبادر إلى ذهن صبي في التاسعة عن طبيعة المكان الذي تركت فيه الظبية أبناءها؟ وعن سبب تركها لهم أصلاً في الصحراء؟ وعن مصير والدهم الذي لا تذكر الحكاية شيئاً عنه. لدينا أيضاً شرير مثالي، كان لا بد أن يكون يهودي الديانة، على أساس أن الصيادين المسلمين لا يمكن لهم أن يصطادوا ظبية لها أبناء في سن الرضاعة، وعلى أساس أن جعل الصياد مسيحي الديانة أمر لا يتسق مع فكرة عناق الشيخ مع القسيس وعيش الهلال مع الصليب، ومع أن الرواية الشعبية نصّبت الصياد اليهودي في دور الشرير قاسي القلب، إلا أنها افترضت أيضاً أن لشره حدوداً، وأن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام عند الصياد اليهودي ستكون كافية لإقناعه بترك الظبية التي ستلتزم بكلمة شرفها، وستعود بعد إطعام أولادها، أو ربما بعد حملهم إلى مكان يضمنون فيه مصير وجباتهم التالية. ولدينا بالإضافة إلى هذا كله، بطل مثالي هو النبي عليه الصلاة والسلام، سيختار التضحية بحريته دون أن يتدخل بالقوة لتحرير الظبية من قبضة الصياد، لأن الصياد بشكل منطقي لم يرتكب محرماً، بل مارس حقه المشروع في الصيد، كما أنك لا يمكن أن تلومه لأنه صمم على الاحتفاظ بصيدته، خاصة أن حاجز اللغة كان قائماً بينه وبينها، فالله تعالى لم ينطق الظبية لتكلمه، بل أنطقها لتكلم سيدنا النبي الذي حمل رسالة الظبية إلى الصياد.


للأسف لم أعد أذكر ربما بسبب شدة ميلودرامية الحكاية، ما الذي حدث في نهايتها؟ هل التزمت الظبية بكلمة الشرف التي قطعتها على نفسها، فعادت في موعدها المحدد لتفدي النبي من أسره؟ أم أنها أخلفت وعدها على أساس أن النبي عليه الصلاة والسلام سيتفهم قرارها بالبقاء إلى جوار أبنائها، وأنه سيتكفل بإطلاق سراحه من أسر اليهودي بحول الله وقوته، وحين سألت خالي الذي اصطحبني إلى المولد عن نهاية الحكاية، قال لي إنه يذكر أن الحكاية انتهت بإعلان اليهودي لإسلامه، لأنه تأثر بتضحية النبي، ولا أدري إذا كانت تلك نهاية الراوي الشعبي، أم النهاية التي اختار خالي أن ينحاز إليها، فالحكاية ككل الحكايات العظيمة تحتمل أن يكون لها أكثر من نهاية، ربما يكون من بينها مثلاً نهاية يمكن أن تصلح لمجتمعات أكثر تنوعاً ومعاصرة، لا يعلن فيها الصياد اليهودي إسلامه، بل يكتفي بإعلان تركه للصيد، منعاً لحرمان أي أمهات من أبنائهن، وربما يقرر الاكتفاء بالأكل النباتي.

قادني تذكر تلك الحكاية إلى تأمل رحلة النبي عليه الصلاة والسلام مع الحزن، وحين بحثت في كتب السيرة النبوية عن أصل لتلك القصة الشعبية، وجدت مرويات تحكي قصصاً شبيهة، يختلف فيها نوع الفريسة التي تم صيدها، فتكون ظبية ذات مرة، وتكون يمامة في رواية أخرى، وهي مرويات يجمع من قاموا بتخريجها وتحقيق إسنادها على كونها ضعيفة السند، أو موضوعة بهدف تجسيد رحمة النبي الكريم، الذي لم يكن رحيماً فقط بالمؤمنين، كما تصفه الآية القرآنية، بل كان يتعاطف مع أحزان الكائنات جميعاً، فقد كان له علاقة طويلة مع الحزن، قبل أن يحمل فوق أحزانه الشخصية، حزن أصحاب الرسالات والثائرين العظام، حزن رجل رفض الاستسلام للواقع الفاسد المحيط به، وقرر مواجهته أياً كان الثمن الذي سيدفعه.

كان أول حزن شهده النبي عليه الصلاة والسلام هو أكبر حزن يشهده إنسان: حزن اليتيم الذي يكبر إلى الدنيا فلا يجد حوله أباه ولا أمه الذين لا يعرف عنهما شيئاً، ويكتشف أن ذلك الشيخ الحنون المحب له ليس والده كما كان يظن، بل هو جده عبد المطلب الذي حاول دائماً أن يعوضه حنان أبيه، وأن السيدة البدوية التي أرضعته لم تكن والدته، بل كانت سيدة لا تمتّ له بصلة قرابة اسمها حليمة السعدية، وأن تلك السيدة التي تغمره بحنان أمومي دافئ هي خادمته أم أيمن، وأنه في الحقيقة يتيم ووحيد، وأن كل ما سيحيط به من حنان، لا يمكن أبداً أن يعوضه عن ذلك الحزن الذي ارتبط به منذ أن ولد.

وبعد أن تعلق النبي بجده وارتبط بحنانه، أبت إرادة الله عليه إلا أن يجتاز حزناً جديداً حين يداهم الموت جده عبد المطلب، ويقف الصبي ذاهلاً ينظر إلى جده وهو يغالب سكرات الموت، وبناته من حوله يبكينه في مشهد صاحبه ألمه طويلاً، يصفه الدكتور طه حسين باقتدار في كتابه (على هامش السيرة) قائلاً: "ويطلب الشيخ إلى بناته أن يبكينه كما يبكي النساء الموتى ويلح عليهن في ذلك، وهؤلاء بناته من حوله يرفعن أصواتهن نادبات نائحات، معددات مآثره ومفاخره، مصورات هذا الحزن العميق الذي يسعى حثيثاً إلى الشيخ، والصبي قائم من وراء السرير يرى ويسمع ويمتلئ قلبه بما يرى وما يسمع، وتنهل من عينيه دموع صامتة لعلها لو رآها الشيخ لأرضته، والصبي محزون كئيب يذكر أمه ويذكر جده، وينظر إلى حاضنته وينظر إلى عمه، ويفوض أمره بعد هذا إلى الله".


ضاعف رحيل الجد من أحزان اليتم التي عاناها النبي، وأضيفت إلى أحزانه معاناة العيش في كنف عمه أبي طالب كثير العيال فقير الحال، ليبدأ تجربة الرجولة المبكرة بالاعتماد على ذاته، حين عمل في رعي الأغنام، وتكسبه صعوبات الحياة شخصية قوية ومتطورة، جعلته سابقاً لسنه وصاحب مكانة معنوية بين قومه الذين أطلقوا عليه لقب (الصادق الأمين)، وبدا له أن الدنيا قد قررت منحه راحة من الأحزان، حين تحسنت ظروفه المادية بعد عمله في تجارة السيدة خديجة بنت خويلد، وحين نشأت بينهما قصة حب تزوجا بعدها، كانت الأقدار تهيئه لتحمل هموم من نوع جديد، هموم الرسالة التي نزلت عليه في غار حراء، فتحمل بعدها لمدة ثلاث سنوات أعباء الدعوة السرية، وهو يحلم بتغيير أحوال قومه الذين أسلموا قلوبهم لعبادة الأصنام التي وجدوا عليها آباءهم، وأسلموا عقولهم لسادة ظلمة مستبدين يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

وحين جاءه الأمر بأن يجهر بدعوته، كان طبيعياً أن يشعر النبي بالحزن، حين أخذ أغلب قومه صف سادتهم الذين رفضوا كلماته وأفكاره التي ترغب في قلب عالمهم رأساً على عقب، فتجعل الآلهة إلهاً واحداً، وتسوي بين العبيد والسادة، بل وتجعل بعض عبيدهم أفضل منهم عند الله لأنهم دخلوا في دينه قبلهم، لتبدأ الحرب الشعواء عليه بوصفه "نبي بني هاشم" الذين لا ينبغي لهم أن يستأثروا بالنبوة أبداً، فليس بنو أمية أقل منهم بأي حال من الأحوال، وكان على النبي أن يحتمل حزناً فوق طاقته، حين يطأ بعض قومه عنقه وهو ساجد، ويلقون عليه الفضلات وهو يناجي ربه، وترمي زوجة عمه أبي لهب الشوك في طريقه، ويبطش أبو جهل وأمية بن أبي خلف وأبو لهب وغيرهم من جبابرة قريش بأصحابه ويعذبونهم بوحشية، وهو لا يملك أن يدفع عنهم سوى بالترخيص لهم في مجاراة الكفار قائلاً لهم: "إلا من أُكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان"، ولا يقدم لهم شيئاً سوى أن يسعى لطمأنتهم والربط على قلوبهم حين يسألونه: "ألسنا على الحق؟"، آملين بأيام يختفي فيها ذلك الحزن الثقيل الذي لم يكن لهم بحمله طاقة.

زاد الأمر صعوبة، حين أدرك النبي أن مرحلة نشر الدعوة في بداياتها، تحتاج إلى عدم إظهار أحزانه والشكوى من عذاباته، بل تحتاج إلى جَلَد وصبر وقوة لم يكن الجميع قادرين عليها، فكان تخلي بعضهم عن السير في طريق دعوته يزيده حزناً نزل فيه قول الله تعالى: "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر". ولم يكن النبي يعرف أن الأمر لن يقتصر على حملات تشويهه واتهاماته بالسحر والكهانة والجنون والشعوذة، ولا على حملات تعذيب أصحابه الوحشية، بل سيمتد إلى حصار شامل يعزله هو وأصحابه عن مجتمعهم، ويهدف إلى تجويعهم وإذلالهم، ليجاهد في مغالبة أحزانه، وهو يرى أهل بيته وأصحابه وهم يربطون بطونهم من الجوع، ويسقط أطفالهم من المرض، ويبقى صابراً ثابتاً لمدة ثلاث سنوات كاملة، دون أن يعلم ما الذي ينتظره بعد أن ينتهي الحصار حين أكلت "الأرَضَة" وثيقة إعلان الحصار، وقبل أن يفرح بذلك، تعاجله الدنيا بحزن جديد، حين يموت عمه أبو طالب، فيفقد أعز أنصاره وحاميه من بطش قريش به، وقبل أن تجف دموعه على عمه الذي مات عن ثمانين عاماً، تأتيه الفاجعة الكبرى بوفاة زوجته وحبيبته وأم بناته خديجة عليها السلام، ليطلق النبي على ذلك العام الأسود وصف (عام الحزن)، مع أن الأعوام التي سبقته كانت مليئة أيضاً بالعذاب والمعاناة، وكأنه كان يسجل حقيقة أنه لا حزن في الدنيا مهما ثقل وطال، يشبه الحزن على فراق الأحباب: العم الذي رفض أن يسلمه لبطش قريش، والزوجة التي أعانته محبتها على احتمال كل ذلك الظلم.

وحين قرر النبي أن يفارق موطنه وأهله، باحثاً عن مكان جديد ينشر فيه دعوته، وجد في الطائف قلوباً أكثر قسوة ووحشية، تدرك خطورة رسالته على مصالحها وامتيازاتها، ولذلك كان بديهياً أن يسبه المتنفذون من أهلها وأعوانهم، ويقوموا برميه بالقاذورات والحجارة حتى يدمى جسده، فيجلس تحت ظلال أحد البساتين باكياً ومتضرعاً إلى ربه: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملّكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فيهتز عرش الله تعالى لدموع نبيه، وحين ينزل جبريل عليه السلام ليقول للنبي غاضباً: "أؤمرني فأطبق عليهم الأخشدين"، يعلو النبي فوق أحزانه التي قد تجعل أي بشر يرغب في الانتقام، فيختار التسامح مع ظالميه، لعل رسالته الداعية إلى العدل والحرية والمساواة، تصل يوماً ما إلى الأجيال التالية: "لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله".


كان النبي على موعد مع حزن عظيم جديد، حين فارقه أصحابه وأحبابه الذين هاجروا إلى الحبشة هرباً من بطش سادة مكة، وحين بدا له هو أيضاً أن لحظة فراق الوطن باتت حتمية، بعد أن أخبره مبعوثه مصعب بن عمير أنه وجد في يثرب أنصاراً لرسالته، يتوقون إلى استضافته، لتنير به مدينتهم، وتصير مركزاً لنشر رسالته، جاءت لحظة فراق الوطن التي كان لها وطأته الثقيلة على نفسه، حتى لو كان هذا الوطن قد أغلق أبوابه في وجهه ودفعه للخروج منه، وحتى لو كان أهله قد آذوه وعذبوه وكذبوه، وكان لزاماً على من ضحى بكل مكاسبه وامتيازاته من أجل أن تتغير أحوال وطنه إلى الأفضل، أن تسيل دموعه وهو يلتفت مع صاحبه أبي بكر نحو مكة مسقط رأسه وملعب صباه وموطن شبابه، ليقول باكياً على فراقها: "والله إنك لأحب بلاد الله إليّ ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت"، وحين فاضت أحزان صاحبه خلال رحلة الهجرة التي لم تكن نزهة هينة، لم يجد سبيلاً للتغلب على ذلك الحزن أفضل من أن يوصي صاحبه قائلاً: "لا تحزن إن الله معنا".

في المدينة، كان النبي أخيراً على موعد مع دموع الفرح التي سالت بعد أن استقبله أنصاره أجمل استقبال، ليعلنوا بدء مشاركته لهم في بناء مجتمع جديد بكل ما يحمله ذلك من مصاعب ومتاعب ومخاطر، لكن دموع الفرح التي تواصلت عقب انتصاره الأول على سادة قريش في غزوة بدر، تبدلت إلى دموع حزن وأسى في غزوة أحد التي انكسر فيها بعض أصحابه بفعل ضعف النفوس والطمع في الدنيا، وحين سقط أعز أصحابه قتلى في ميدان أحد، وبقر وحشي الحبشي بأمر من هند بنت عتبة بطن حمزة بن عبد المطلب عمه وصديقه الحبيب، سالت دموع النبي وهو يقف فوق جثته حزيناً وقائلاً: "لن أصاب بمثلك أبداً، ما وقفت موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا"، وحين تملكه الغضب فأقسم: "والله لئن أظهرنا الله عليهم يوماً من الدهر لأُمثِّلهن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب"، نزل عليه الوحي الإلهي مصبراً ومذكراً: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تكُ في ضيقٍ مما يمكرون".

لكن الحزن زار النبي كثيراً بعد ذلك، زاره في حديث الإفك، حين طعنه في شرفه كثيرون على رأسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول زعيم المنافقين، الذين خاضوا في عرض زوجته وحبيبته عائشة بنت أبي بكر، لتطبق الغمة على صدره، حتى ينزل الوحي مبرئاً لها بآيات شرحت صدره. زاره ثقيلاً دامياً في غزوة مؤتة التي كانت أقوى مواجهة لدعوته الصاعدة مع إمبراطورية الروم العتية، ففقد في ساحة المعركة خادمه وصديقه زيد بن حارثة وابن عمه القريب إلى قلبه جعفر بن أبي طالب وصاحبه عبد الله بن أبي رواحة، وحين بلغت أخبار الفقد الرهيب مسامعه، انطلق إلى بيت زيد، وحين رأى ابنته تجهش بالبكاء، انتحب باكياً بشكل لم يعهده أصحابه من قبل، ليقول لهم: "هذا شوق الحبيب إلى حبيبه"، وحين أتوا إليه بزوجة وأبناء جعفر بن أبي طالب الذين لم يكن قد وصلهم الخبر بعد، أخذ في ملاعبتهم وهو يغالب دموعه، منتظراً أن تأتي فرصة لإبلاغهم بالخبر الفاجع، وحين خانته دموعه، سألته زوجة جعفر: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟"، فانخرط النبي في بكاء طويل لم يتوقف، إلا حين بشره الله تعالى أنه أبدل جعفر في الجنة ذراعين يطير بهما، غير ذراعيه الذين قطعهما مقاتلو الروم في خضمّ المعركة.

يقول ابن القيم الجوزية في وصف علاقة النبي عليه الصلاة والسلام بالبكاء والحزن: "كان بكاؤه صلى الله عليه وسلم من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويُسمع لصوته أزيز، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية". جاء في الحديث أن النبي بكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى إلى قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً"، وأنه بكى لما مات عثمان ابن مظعون، وبكى لما كسفت الشمس لأول مرة فصلى بأصحابه صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته ويقول: "يارب ألم تعدني، الآن تعذبهم وأنا فيهم، وهم يستغفرون ونحن نستغفرك"، وأنه كان يبكي أحياناً في صلاة الليل، وروي أيضاً أن عمر بن الخطاب رأى النبي يبكي هو وصاحبه أبو بكر في طريقة التعامل مع أسرى بدر، عندما نزل القرآن ليخطئ رأيهما ويصدق رأي عمر، فقال له عمر: "أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما"، ولم ينكر عليه ذلك النبي، لأنه كان يعرف قلب عمر القوي، ويعرف أن علاقته بالحزن والبكاء مختلفة عن علاقته بهما، والتي عبر عنها حفيده الحسن بن علي حين قال: "كان رسول الله متواصل الأحزان دائم الفكر ليست له راحة".

بعد أن أنهى النبي غزوة تبوك، وبدأت وفود المسلمين تجيئه من كل بلاد الجزيرة وما حولها، جاءته خاتمة الأحزان وذروتها وأقساها. كان النبي قد رُزِق بابنه إبراهيم من جاريته مارية القبطية، وفرح بما حباه الله فرحة كبيرة، لم تدم أكثر من ثمانية عشر شهراً، كان الوليد فيها قرة عين أبيه، لكن فرحة النبي لم تتم، فقد أصاب طفله مرض مفاجئ، وحين أخرجوه إلى الهواء الطلق لعله يكون عوناً في تحسن حالته، وقف النبي الأب تحت ظل النخلة التي وضعوا ابنه أسفلها، ونظر إلى ابنه الوحيد الذي جاءه حين تولى عنه الشباب وحين أقبلت عليه الشيخوخة، ولما أدرك أن حالة ابنه لا تتحسن كما كان يأمل، وشعر باليأس من شفائه وضع طفله في حِجره، وقال له محزوناً وراضياً بقضاء الله: "إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئاً"، ثم انهمر في البكاء وابنه يجود بأنفاسه الأخيرة، وهو يقول له باكياً: "يا إبراهيم لولا أنه أمر حق ووعد جامع وسبيل متناء، وإن آخرنا لاحق بأولنا، لوجدنا عليك وجداً غير هذا"، ثم صمت قليلاً وقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون".

وحين استنكر بعض المتنطعين وغلاظ القلوب بكاء النبي الشديد على ابنه، بدلاً من إظهار التجلد والصبر على قضاء الله، قال لهم النبي معلماً: "ما عن الحزن نُهيت... وإن ما ترون بي أثر ما في القلب من محبة ورحمة، ومن لم يُبدِ الرحمة، لم يُبدِ غيره عليه الرحمة"، لكن حزنه على ابنه وبكاءه على فراقه، لم يمنعاه في الوقت نفسه من محاربة خرافة استشرت في أوساط أهل المدينة، عندما كُسِفت الشمس، فشاع بين الكثيرين أن ذلك حدث بسبب وفاة ابن النبي التي أحزنت السماء وبدّلت نواميس الكون، فقال النبي لهم "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يُكسفان لموت أحد ولا لحياته".

قال النبي ذلك بثبات ورباطة جأش، وقد أعاد الحزن الجديد إليه أحزاناً قديمة كان قلبه قد اختبرها، حين جرب دموع فقد الولد قبل ذلك مرتين، الأولى حين مات ابنه القاسم فبكاه هو وزوجته خديجة، والثانية حين ماتت ابنته رقية زوجة صاحبه عثمان، فجلس ليبكيها على قبرها، بعد أن بكاها من قبل وهو يشاهد روحها تفيض، لكن دموعه على إبراهيم كانت أقوى وأصعب، ربما لأنها كانت خاتمة لرحلته الطويلة مع الحزن، قبل أن يصيبه المرض، ويفارق الدنيا لاحقاً بربه عز وجل الذي قال في وصفه من قبل "وكان بالمؤمنين رحيماً"، والذي قال مذكراً له: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، لتبقى رحلته مع الحزن طيلة القرون التي أعقبت رحيله، حافلة بحكايات بعضها موثوق فيه، وبعضها مختلق وموضوع، لكنها جميعاً اتفقت على امتداح رحمته وإنسانيته ودموعه التي كانت تسيل من قلبه الرقيق، حزناً على كل مظلوم، حتى وإن كان ظبية حرمها صياد غليظ القلب من أبنائها.

زيدوا النبي صلاة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.