ما صنعته الجوافة بالأدباء (2)

ما صنعته الجوافة بالأدباء (2)

29 يوليو 2020
+ الخط -

إن فقد المازني محبوبته بسبب الجوافة، فالولد الشقي لاقى شيئًا من التعذيب، ومن تحت راس الجوفة أيضًا، وتعددت صنوف تنكيل الجوافة بعمنا محمود السعدني. تأتي أسئلة الامتحان -أحيانًا- مزاجية، ويُطلب منك أن تُدلي برأيك، ليس لوجاهته ولا لقياس قدرتك على التحليل والتمحيص، بل لقياس مدى قربك أو بعدك من توجهات الممتحِن!

وهذا بفصه ونصه ما واجهه السعدني، سنة 1938، وهو صبي يحاول أن يشب عن الطوق؛ ففي امتحان الابتدائية كتب أستاذ اللغة العربية، الشيخ مرسي، سؤال: ما هي أحب الفاكهة إليك؟ والسؤال واضح لا يحتمل التأويل، لم يطلب الأستاذ منهم أن يجيبوا نيابةً عن غيرهم، ولا أن يتوقعوا ما أحب الفاكهة للشخصية الفلانية، إنما سؤال مباشر وفيه قدر من الذاتية والتعبير عن الرأي.

وتوظيفًا لهذا القدر من حرية التعبير، أجاب الولد الشقي عن سؤال الشيخ وفق هواه، وكتب (الجوافة)، إذ للسعدني علاقة خاصة بالجوافة، علاقة تُنسيه نفسه فضلًا عن الآخرين، وهو طفل وصبي ورجل ذواقة، أكيل بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أكيل وصولًا إلى "وداعًا للطواجن"، له صولاتٌ وجولات في مطاعم الكشري، ومحل السمين وغيرها من محلات الأكل، الثابتة منها والمتحركة.

يمكنك -وأنت مغمض العينين مطمئن الفؤاد- أن تقول إن السعدني أضاف فصلًا عمليًا لقصته المفضلة، وخلع عليها جانبًا جديدًا وبصبغة مصرية معبَّقةً بنكهة وطعم الجوافة!

أجاب السعدني عن سؤال الشيخ مرسي قولًا واحدًا (الجوافة)، ولأن حرية الرأي مكفولة للجميع؛ فإذا بالشيخ مرسي يشطب على الجوافة، ويجيب بدلًا عن الولد الشقي كاتبًا (التفاح)، يبدو أن الشيخ كان مغرمًا بالتفاح، أو أن لديه عقدة نقصٍ يريد أن يتحرر منها، ولو على حساب طلابه، ولم يكتفِ بالشطب على الجوافة وكتابة التفاح، وإنما حرم الطالب من الجوافة ومعها ثلاث درجات، هي الدرجات المرصودة للإجابة عن هذا السؤال، فضلًا عن إتحافه بعلقة ساخنة، لا لشيء إلا لأنه كتب (جوافة)، ولم يختر التفاح!

يعلق الولد الشقي قائلًا ".. ولم أكن -حتى هذه اللحظة- قد ذقت التفاح إلا مرة أو مرتين، وربما كان الشيخ مرسي مثلي تمامًا، ولكن مرسي الذي هجر زي المشايخ وارتدى البدلة والكرافتة والجزمة ذات اللونين، والذي كان ينتفض غضبًا كلما ناداه أحدنا بلقب شيخ، رأى أن ذكر كلمة جوافة عيب وخطأ لا يُغتفر في ورقة الامتحان".

لم يدرك الشيخ مرسي أن علاقة السعدني بالجوافة قديمة، ولعب الجو المحيط دورًا محوريًا في تهيئة الولد الشقي لهذه العلاقة، وللقراءة دورٌ لا يقل أهمية ومحورية، يقول السعدني بعد كلامٍ طويل انتقد فيه المناهج التعليمية -ويذكرنا ذلك بموقف صاحب القنديل يحيى حقي من ألبوم ذكرياته حول الدراسة- إن القصص قد استولت عليه، وقد شغفها حُبًّا "إنها تنقلني إلى جوٍ بديع، جو أشبه بالأحلام والأنغام".

ولذلك عوامل منها قوله "إن بيتنا كثيِّبٍ جدرانه كالحة، منظره مش ولا بد، وحارتنا مظلمة وموحلة وضيقة كأنها شق الثعبان، وأكلنا سيئ ولعبنا أسوأ، وكل شيء وأي شيء حولي ليس على ما يرام"، ومن ثم فقد أقبل على القصص لدرجة أنه "نهش القصص نهشًا، وقرقش أوراقها قرقشة، واستحلب أحداثها في بهجة وفي لذة، لكنه لم يشعر أبدًا نحوها بالتخمة".

وانتخب الولد الشقي من بين ما قرأ روايةً انطبعت أحداثها في وجدانه قبل ذاكرته، رواية تتحدث عن ابن أحد فرسان الملك الإنكليزي، مات أبوه دفاعًا عن الملك؛ فأخذه الخادم جاكوب إلى الغابة الجديدة، واعتنى به حتى بلغ أشده واستوى، وكان يتناول من ثمار الحديقة الجديدة أطيب الثمار والفواكه، وخرج من الغابة إلى باحة المُلك أفاد من سيرة أبيه الطيبة في بلاط الملك.

وقرأ السعدني هذه القصة عشرات المرات، حتى تمنى على الله أن يعيش في غابة، وأن يحظى بالنعيم الوارد في قصته الأثيرة، واستجاب المولى تبارك وتعالى الدعاء؛ فدخل يومًا جنينة قريبة من بيته، يقال لها جنينة عبد البر في الجيزة، متخيلًا نفسه من أطفال الغابة الجديدة، وصنع لنفسه كوخًا صغيرًا بين شجرتي جوافة، واندمج في الدور واختلق أحاديث بينه وبين العجوز جاكوب، وتمادى حتى أضاف لفصول الرواية فصلًا من عندياته.

يمكنك -وأنت مغمض العينين مطمئن الفؤاد- أن تقول إن السعدني أضاف فصلًا عمليًا لقصته المفضلة، وخلع عليها جانبًا جديدًا وبصبغة مصرية معبَّقةً بنكهة وطعم الجوافة! يقول "وكانت ثمار الجوافة مغرية؛ فأقدمت على عمل لم أكن قد قرأته في الرواية، تشعبطت على شجرة، وجمعت أكثر من أُقَّة، ونزلت إلى الكوخ، ومسحت الجوافة بجلبابي، وجلست ألتهم حباتها في لذة".

ولك أن تتخيل مفعول الجوافة، أو لا تتخيل وسيخبرك -بعضمة لسانه- عن وقعها في نفسه وتأثيرها في معدته بقوله "وصنعت الجوافة الشيء الذي لم تستطع الروايات أن تصنعه، أنستني أطفال الغابة الجديدة، وعم جاكوب، وتبهدلت الرواية بين أصابعي، واصفرت أوراقها وتمزقت، ثم قذفت بها بعد ذلك إلى الطين ودست عليها بالأقدام، واستخدمت بعض صفحاتها في تنظيف حبات الجوافة، وتحولت أحلام في الغابة الجديدة إلى غابة جوافة".

وأنسته الجوافة ثورة الشعب الإنكليزي على الملك، فليس في جنينة عبد البر ثورات، وإنما حياة هانئة في كوخ تَحُفُه الجوافة من أركانه، واستقرار ما بعده استقرار، لكن لا شيء يبقى على حاله، وجرَّت مغامرات الولد الشقي عليه مشكلة جديدة، أجبرته على التنازل عن عرش كوخ الجوافة، والاكتفاء بقذف أشجار الجوافة بالطوب، وهاتك يا حدف وتزقيل طمعًا في حبة جوافة واحدة!

وحتى هذه المكرُمة الجديدة -على تدني مرتبتها- لم تطل مدتها، وجرَّت الحرب العالمية على جنينة عبد البر طامةً كبرى، إذ اقتحمت سيارة تابعة للجيش المصري الجنينة، سنة 1939، وأزالت أشجار الجوافة في قسوة، ثم حفرت الأرض إلى عمقٍ كبير، وأنشأت محل الجوافة مخبأ لحماية الناس من غارات الحرب، ودهن عمال البلدية مصابيح النور بلون أزرق كالح، وأصبحت شوارع الجيزة مظلمةً سوداء.. أشد سوادًا من قلب الكافر!

هذا ما تجره الحرب في كل زمان ومكان، ومع ذلك يتنطع بعضهم مناديًا بالحرب، متناسين أن "الدودة جت تقلِّد التعبان.. اتمطعت قامت اتقطعت"، والحِدِق يفهم!