ما بيننا وبينهم أكبر من السباب

02 اغسطس 2014
+ الخط -


لمّا تمّ اكتشاف خيانة يهود بني قريظة وغدرهم بالمسلمين، أخذ سعد بن عبادة يسبّهم، فقال له سعد بن معاذ: إن الذي بيننا وبينهم أكبر من السباب.

ويبدو أن ما يحدث من مجازر في غزة، وهو المشهد الذي يتكرّر منذ 1948، من تهجير وتقتيل وذبح، ابتداء من الخدّج إلى الطفولة إلى النساء والعجائز، لا يجعل ما بيننا وبين الصهاينة سوى الدم، والقوّة مقابل القوّة، والحديد مقابل الحديد، والنار مقابل النار، والعقل مقابل العقل، ولا معركة ستكتسب بالسبّ والشتم من خلف الصفحات الاجتماعية، أو بيانات تنديد باردة وباهتة، فالمعركة حامية، وتتطلّب إنجازات على الأرض، فما بيننا وبينهم، كما قال سعد، أكبر من السباب.

فقد كشف الاعتداء على غزة ثلاث حقائق، الأولى أن قيادة السلطة الوطنية دخلت بيت الطاعة الصهيونية، وأن في غزّة شعباً رافضاً مقاوماً هو أمام خيار أن يموت أو يرحل. والثانية، أن إبداع المقاومة وتحقيق الانتصار ليس مستحيلاً، والثالثة، أنه بمنطق التاريخ، أرض فلسطين لا تحتمل إلّا شعباً واحداً، نحن أو هم، ويجب أن نكون نحن، لأننا أصحاب الأرض والحق.

وقد أثبتت الوقائع أنّ الاحتجاجات في الضفّة الغربية، لم ترتق بعد إلى مستوى الدّم المراق في غزّة، لعدّة أسباب، منها، وجود سلطة فلسطينية متخاذلة، فقدت اتجاهاتها نحو تحرير الأرض، إلى عداء المقاومة، والعمل على ضربها، ومطاردة رموزها، وتسليمهم إلى الكيان الصهيوني، ضمن مؤامرة التنسيق الأمني "المقدّس". وفي المحصّلة، لم يبق من أرض الضفة سوى ثلثها، يطاردُ فيها الفلسطينيون الفلسطينيين لمنعهم من المقاومة، فيما ثلثا الأرض تمّ احتلاله، والانتهاء منه في مستعمرات مؤمّنة وآمنة. أمّا ما يحدث في غزّة الآن، فهما حدثان مهمّان في صيرورة التاريخ، وفي نسيج تقاطعات المستقبل، عمليّة تطهير عرقي، وتدمير لكل البنى التحيّة، وعمل إبداعي للمقاومة، فاق كلّ التصوّر، وأذهل العدو.

قتل الأطفال وذبحهم وتقطيع أجزائهم، ليس عملاً صهيونياً اعتباطياً أو عبثياً، إنه عمل في غاية التوجيه والدقّة، يهدف إلى إحداث الصدمة في أذهان الأطفال، لينشأوا مرعوبين وخائفين وغير قادرين على المواجهة، إنهم يصنعون الصورة المؤلمة في العقول الباطنة لأطفالنا، ليمتنعوا مستقبلاً عن مواجهة العدو، خوفاً من جملة إدراكات عاشوا عليها في أثناء طفولتهم. إنهم يريدون صناعة جيل خائف مرعوب، وهو ما لن يحصل أبداً، مادامت المقاومة تمارس عملها الإبداعي، وتصنع به الصورة الأخرى الإيجابية في أذهان الأطفال. إبداع المقاومة لم يعد خافياً على أحد، فهو إبداع في أسلوب الحرب، وإبداع في تطوير وسائلها، وأيضاً، في استثمارها إعلاميّاً، وهي الحلقة الأهم في صناعة الوعي الجمعي المستقبلي.

فأسلوب المقاومة القتالي تطوّر كثيراً منذ حرب 2008/2009، وأصبح يعتمد على الهجوم والمباغتة، وفي أرض العدو أيضاً، مستعملاً كل المجالات، الأرض والسماء والبحر، هذا الأسلوب أثبت جدواه، وحقّق إنجازاتٍ كثيرة، بقتل عشرات الجنود الصهاينة. وأما تطوير الوسائل، وعلى الرغم من بدائيتها، فإنها أحدثت الأهداف المطلوبة، من إرعاب العدو، وتعطيل مؤسساته الصناعية، ومطاراته، وإيقاف كلّ حركة السياحة فيه، وإلغاء كلّ الحجوزات، وهو ما قدرت عليه هذه الصواريخ، التي يسمونها استهزاء "العبثية".

والإبداع الأهم في فعل المقاومة، هو هذا التفوق العلمي الذي وصلت إليه عقول المقاومين، فالصواريخ التي كان مداها لا يفوق 30 كلم أصبحت تصل إلى أبعد من 160 كلم، وتبقى قدرتها التفجيرية البسيطة حالياً، هي التطوير القابل للإنجاز لاحقاً. والطائرات بدون طيّار، وقد قالوا عنها من ورق، فهي تساهم في جمع معلومات استخباراتية، وكشفها حول مواقع عسكرية تنجح المقاومة دائماً في ضربها. ويكفي أن تصل العقول المقاومة إلى صنع الطائرة، لتصبح عمليّة تطويرها أمراً محتوماً. كما أن هذه العقول اخترقت القناة العاشرة مرّتين، ومرّرت رسائلها إلى الصهاينة كما شاءت، فضلاً عن اختراقات يومية لشبكات الجوّال، ما جعل الاعتداء القائم كأنه حرب الندّ للندّ، على الرغم من الأذى الكبير الذي يحدثه الصهاينة للمدنيين.

هذا الأذى الكبير الذي يحدث للمدنيين، ويتكرّر منذ 1948، بأساليبه نفسها، تشريد الفلسطينيين وتهجيرهم، ضمن فكرة "دولة اسرائيل الكبرى"، يثبت، في كلّ مرّة، أن فكرة حل الدولتين، فاشلة، أو هي حيلة لمزيد من أكل الأرض الفلسطينية، ولمزيد من إضعاف المقاومة، إلى حدّ تحييدها، لطرد من تبقى، أو دخوله بيت الطاعة، كما دخل عباس وزبانيته، كما يثبت أن فلسطين، لا يمكن أن تكون لشعبين، فهي إمّا للصهاينة، وهم يعملون على ذلك، أو للفلسطينيين، وهم تآكلوا في الضفّة، ويُضربُون في غزة.

أمّا المعطى الجديد الذي دخل المعادلة حالياً، فهو تحوّل أنظمة عربية كثيرة إلى الصف الصهيوني، علناً، وهي تقاتل معهم، جنباً إلى جنب، بالمال وبالإعلام، ما سيعقّد مهمّة الأطراف المقاومة.

ولأن القضيّة الفلسطينية، في جوهرها، عربية وإسلامية، فالمقاومون ليسوا هؤلاء الذين يقاتلون في غزة وحدهم، وإنّما اولئك الشرفاء في كلّ الوطن العربي والإسلامي، وما هو مطلوب منهم أكثر من السباب، والشتم على صفحات التواصل الاجتماعي، أو تنديد هنا أو هناك. المطلوب فعل حقيقي، وكل من موقعه وإمكاناته، فما بيننا وبين الصهاينة أكبر من السباب. إنه الدم، وصراع الوجود.

محجوب قاهري
محجوب قاهري
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.
محجوب أحمد قاهري