ما بعد سقوط الكومبين (4)

ما بعد سقوط الكومبين (4)

07 نوفمبر 2019
+ الخط -
"لو نفعت كلمة لو.. لتشعبطنا في الجو".. كان سيسعدني أن أصادف هذه العبارة المتظارفة في ظروف طبيعية، لأستقبلها بما يرجوه قائلها من اهتمام، لكن أن تقولها لي وأنا أقف معك على سطوح لا سور له، في غرفة لا سقف لها، فلا تستغرب حين أشخر لك على الأقل.

كان مؤمن قد قال لي تلك العبارة مصحوبة بضحكة من تلك التي تعود على أن يستخدمها مع زبائن الشاورمة حين يطلبون منه استبعاد الدهون من الساندوتش أو زيادة الطحينة، حين قلت له غاضباً إنه كان يمكن أن يمنع حصول تلك الكارثة لو كان قد التزم بوعده لي في صباح نفس اليوم، كنت قد صحوت متأخراً بعد ساعات من استجداء النوم ودفع القلق، كان الوقت المتبقي على بدء أول محاضرة أضيق من أن أصعد إلى السطوح لتفقد المطرح البديل المفترض، ولم يكن يخطر على بالي أن مؤمن سيستسهل في التعامل مع الموقف، إلى الحد الذي سيجعله يفضل الذهاب إلى عمله دون أن يلقي نظرة على غرفة السطوح، برغم أن وقته كان يسمح بذلك، ولو كنت أعلم ذلك لضحيت بأول محاضرة، وعندها كان يمكن أن أنقذ نفسي من تلك المصيبة التي لبثنا فيها شهور عددا.

قال لي مؤمن وهو يحسب أنه يريحني من لوعة الأسى، أن قراره بقبول الانتقال إلى الغرفة لم يكن سيختلف، حتى لو كان قد صعد إلى السطوح، ورأى أن الغرفة الموعودة لم يكتمل بناء سقفها بعد، بعكس الغرف الثلاثة الأخرى الموجودة فوق سطح عمارة الحاجة أم عادل، الذي استخسرت أن تضع له سوراً على أمل أن يتوفر لديها المال يوماً ما فتقوم بتعلية دور أو دورين، يذكرني مؤمن الذي لم يكف عن الهرتلة منذ رأيته، بأن قرار الصعود إلى السطوح وترك شقتنا لأسرة كمال باشا، كان نابعاً من الجدعنة، والجدعنة لا تحب التفاصيل، بل تحب أكثر القرارات التي تؤخذ خبط لزق أياً كانت عواقبها.

كنت أستمع إلى هرتلته وأنا أجيل النظر في الغرفة الواسعة التعيسة، وأنا أحاول إخفاء غلياني من الغضب، مفكراً في تصرف منطقي يمكن أن أنقذ به ما يصعب إنقاذه، لكن محاولتي فشلت وأفضت إلى انفجاري في وجه مؤمن، بعد هبّة هواء قوية، تساقطت علينا بسببها حبات من نشارة الخشب، انبعثت من الألواح الخشبية التي استقرت في سطح الغرفة، منذ متى لا أدري، في انتظار من يقوم بسقفها، لعل ذلك يداري رداءتها ورخصها.


أخذت لحظات في محاولة استيعاب الصدمة، وأنا أنفض نشارة الخشب عن وجهي وشعري، وكان يمكن لصمتي أن يطول، لولا تلك الضحكة العريضة التي أطلقها مؤمن وهو يقوم بتنفيض وجهه من نشارة الخشب، قائلاً: "كده احلوت أوي.. ده اللي كان ناقصنا عشان الإقامة تبقى سبع نجوم"، ليكون ذلك آخر ما قاله قبل أن تنبعث مني شخرة طويلة ملتحمة ببعضها، انهلت بعدها عليه وعلى أمه والذين خلّفوه سباً وقذفاً، دون أن يفرملني تلاشي ضحكته وتحولها إلى صدمة ثم إلى غضب ظل يحاول يكتمه حتى أنهيت وصلة شتائمي، وجلست على أقرب كرسي وأنا ألتقط أنفاسي.

كانت تلك المرة الأولى التي أشتم فيها مؤمن بكل تلك البذاءة التي لم يعهدها مني موجهة نحوه، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها وجهه مكفهراً بالغضب، فقد كان طيلة الوقت في حالة ضحك مستمر، قلت له ذات مرة في لحظة صفاء ونحن نتعشى سوياً، إنني أخاف على وجهه من التشقق بسبب طول الضحك ودوام الابتسام، وأنه يجب أن يخرج ولو في الليل من حالة اللطف المستمرة التي يضطر إليها بحكم عمله الشاورميّ، فقال متفاخراً إن الابتسامة العريضة لا تفارقه أيضاً خلال عمله في الصباح في مدرسة الصنايع، مع أنه يتعامل مع مجموعة من أنجس من خلق الله من عيال، أجبروه على مراجعة كل ما درسه في كلية التربية من مناهج تحتفي بالإنسان وتقدره، لكنه أدرك بالتجربة أن وجهه المبتسم سيكون سلاحاً قادراً على قهر الظروف المحيطة به أياً كانت وساختها، وأنني سأكتشف ذلك وأتبناه ولكن مع مرور الوقت.

لم يكن مؤمن سيغضب بشدة لأنني شتمته، بالتأكيد شتمي لأمه هو ما فرق معه، يعني، لو كنت مكانه لما اكتفيت بالغضب الصامت، لذلك بدأت أتوقع رد فعله على ما قلته، وأستعد لمواجهته بما يلزم، خاصة أن بذاءتي أياً كانت حدتها، لم تكن إلا رد فعل على الورطة التي أوقعنا فيها، حين سمح لذلك الضابط اللعين باستلام شقتنا، حين جاءه من صباحية ربنا بصحبة حماته وزوجته وأختها، دون أن يصعد قبلها لمعاينة غرفة السطوح، التي أصبحت أعتقد أن "عادل خرا" كان يعلم أصلاً بحالتها المزرية، ولذلك أصر على أن يقوم هو بنقل الحقائب والأكياس التي جمعنا فيها ما يلزمنا، بدعوى أنه لا يرضيه أن يتأخر مؤمن على شغله، وحتى لو افترضنا أنه لم يكن يعلم، كان يجب أن يتوقف عن إكمال عملية النقل، بمجرد أن صعد إلى الغرفة ورأى سقفها مفتوحاً على السماء وأرضيتها مليئة بنشارة الخشب، التي لا شك أنه قام بكنسها وتوضيبها هو وزوجته المستقبلية، ليساعدنا على تقبل الخازوق فور صعودنا إليها.

كنت قد منيت نفسي بعد عودتي من الكلية بأن معجزة قد تحدث، فيتمكن حضرة الضابط بشكل أو بآخر من توفير شقة لزوجته المستقبلية وأسرتها، فلا نضطر لقلب حياتنا رأساً على عقب لمدة أسبوع أو أسبوعين، لكن أمنيتي تلاشت فور أن دخلت إلى الشارع، حين رأيت حماته تقف في بلكونة غرفتي وهي تقوم بنشر بعض الملايات على حبل الغسيل، كانت ابنتها الكبرى تقف إلى جوارها تشرب كوباً من الشاي وتملّي نظرها في الشارع والعابرين فيه، وحين رأتني لوّحت بيدها محيية ومبتسمة، ولكزت أمها لتقوم بتحيتي، بادلتهما التحية مرتبكاً، ثم زاد ارتباكي حين وجدتهما تشيران إلى أعلى، في إشارة لم أفهمها، إلا حين اقتربت أكثر من العمارة، لتقول لي الأم متحمسة: "الأستاذ مؤمن سبقك على فوق"، فأدركت أنها ترسل لي إشارة مفادها أن لا داعي لكي أقوم بالطرق على الباب للاطمئنان على حاجياتي، لأنها سبقتني إلى السطوح الأعلى، فهززت رأسي شاكراً وأنا أنتزع ابتسامة بالغصب وألزقها على وجهي، موفراً غمغمتي بالشتائم للحظات التالية التي أخذت أصعد فيها السلالم على مهل في طريقي نحو الدور السادس.

كان مؤمن غاضباً بالفعل من شتائمي، لأنه حين بادرني بالحديث بعد صمت موتّر، لم يعد ثانية لابتسامه المعهود، بل قال لي بصوت نحاسي لم آلفه منه، إنه يقدر غضبي بسبب صدمتي من منظر الغرفة وحالة السطوح، وأنه كان يتعامل مع المسألة ببساطة، لأنه حين دخل إلى الغرفة قبل ساعة، وجد أشياءنا موضوعة بداخلها بالفعل، ووجد الغرفة مكنوسة وممسوحة البلاط، ووجد السريرين الموجودين فيها مكسوين بملاءات وأكياس مخدات نظيفة، فشعر أن المسألة ليست كارثية، خاصة أننا لن نقضي في الغرفة إلا أسبوعاً أو أسبوعين بالكثير، وأنه لم يكن يتوقع مسألة نشارة الخشب التي لا يفهم حتى الآن من أين جاءت بالضبط، خاصة أن الألواح الخشبية لم تكن ملتصقة ببعضها كما يفترض، بل كانت متباعدة عن بعضها، وأن سقوط نشارة الخشب منها معناه أنها حديثة التركيب على السطح، وربما تم تركيبها بالأمس على أقصى تقدير، مما يعني أن العمل في استكمال الغرفة لا زال يسير على قدم وساق.


وهكذا، وجدت نفسي مستغنياً عن الدخول في مواجهة عاصفة مع مؤمن، لأراه يقف على كرسي، ويمد أصابعه نحو ألواح السطح ليقوم بالتخبيط عليها، وهو يشرح مدى رخص نوعها، متحدثاً عن الخشب الحبيبي الذي يراه دائماً في ورشة مدرسة الصنايع التي يعمل بها، والذي يحضرونه لتدريب الطلبة على ماكينات تقطيع الخشب، لأن الميزانية لا تسمح بإحضار أنواع خشب أغلى، لينزل بعدها من على الكرسي، ويتوجه نحو أحد حوائط الغرفة التي لم ينس أن يلاحظ أنها أوسع مما كان يظن، ثم يمرر أصابعه على الدهان الأزرق الذي طليت به الحوائط، ليبدي استغرابه من أن أثر الدهان لم يخرج في يده بعكس ما كان يتوقع، وأنه يستغرب لماذا لم تسترخص الحاجة أم عادل في الدهان أيضاً كما استرخصت في خشب السقف، وحين رآني أصوب نحو استعراضه المعماري نظرات خائرة القوى، اتجه نحو السريرين وجلس عليهما بالتناوب، وهو يثني على متانتهما، قبل أن تعود الابتسامة إلى وجهه ثانية بشكل مباغت، وهو يقول لي متودداً: "ولا يهمك يا عم.. انت برضه أخويا الصغير وعشان كده هاسيب لك السرير اللي جنب الشباك".

كانت تلك المرة الأولى التي آخذ بالي فيها أن هناك نافذة في الغرفة التي لا سقف لها، وأنها على عكس سقف الغرفة لم تترك هي الأخرى عارية، بل أنعمت عليها الحاجة أم عادل بشباك خشبي، لكنها لكي لا يقطع الله لها عادة، لم تنعم على الشباك نفسه بلوح زجاجي، وهو ما أعادني ثانية إلى غضبي الذي كدت أفارقه، فنهضت مغادراً الغرفة، ليلحق بي مؤمن وهو يقول لي: "خلي بالك عشان السطوح من غير سور"، فأقف متجمداً في مكاني، وأنا أنظر حولي محاولاً تجميع أين أنا وما الذي أفضى بي إلى ما أنا فيه الآن، ليجد مؤمن أن تلك اللحظة مناسبة للإجهاز علي، فيشير لي بأن أتبعه وهو يتجه نحو بقعة، اتضح بعد إمعان النظر أنها حمام السطوح الذي نشترك فيه مع بقية الغرف، ولم أكن قد انتبهت إليه حين دخلت إلى المكان، مع أنه يجاور فتحة السلم المؤدية إلى السطوح، والتي لم تر أم عادل أنها تستحق وضع باب عليها، لعله يعطي المكان بعضاً من الاحترام.

كان صمتي قد أعاد مؤمن إلى نفسه، فاتسعت ضحكته وهو يقف على باب الحمام، إن صح أن نسمي تلك القطعة الخشبية الشائهة باباً، قبل أن يفتحه فأرى نُقرة الحمام البلدي التي تتوسطه، والتي يخلو الحمام من كل شيئ سواها إلا حنفية صدئة تجاور النقرة الكريهة وتعلوها بقليل، وحين اقتربت أكثر من المكان لأتبين ملامح المصيبة، سمعت مؤمن يقول: "وآدي الدش يا سيدي"، وهو يشير ضاحكاً إلى برميل معدني مريب استقر بالقرب من باب الحمام وقد امتد إليه وغاص في قلبه خرطوم بلاستيكي يتصل طرفه بحنفية صدئة أخرى تعلو حوضاً مشروخاً يستحيل تخيل لونه الأصلي، تم وضعه بين الحمام والغرفة التي تجاوره، وحين رأى مؤمن أنني على وشك الانفجار من جديد، داهمني محتضناً وأخذ يجرني نحو الغرفة، وهو يرجوني أن ندخل إليها لأنه لا يحب أن يسمعني جيراننا من سكان السطوح وأنا أشتم أمه بأقبح الألفاظ.


كانت تلك اللحظة الفارقة التي أدركت فيها أنني لن آخذ حقاً من باطل مع مؤمن، وأن صداقتنا التي كان يراها حقيقة واقعة هي في الواقع أمر مستحيل، لأنني لا يمكن أبداً أن أتعامل مع الحياة بذلك الاستخفاف التافه الذي يظنه خفة ولطفاً، ولذلك فالدخول معه في مواجهة هو أمر لا جدوى منه، وعلي الآن أن أفكر في موقف أكثر عملية من الغضب والشتيمة وتكسير الخشب الحبيبي على رأسه، لذلك بادرت فور دخولنا إلى الغرفة بالاعتذار عن شتائمي المنفلتة، وقبل أن أكمل اعتذاري، قاطعني ليطلب مني أن أبطّل خيابة، لأنني في الواقع لم أشتم سوى أمي أنا، فأمي هي أمه وأهله هم أهلي، ولذلك فالعملية في بيتها، والمسامح كريم والله غفور رحيم، والمهم الآن أن نبادر إلى أخذ موقف سريع من الحاجّة أم عادل لأنها أوقعتنا في هذه الورطة، وعليها أن تبادر فوراً إلى إصلاح هذه الورطة، وقبل أن تتهلل أساريري، انقض عليها مؤمن تمزيقاً وتفشيخاً، وهو يشرح وصفته لإصلاح الورطة والتي تقتضي القيام بدءاً منذ صباح الغد باستكمال تجهيزات سقف الغرفة وشباكها، خاصة أننا أصبحنا في منتصف شهر أكتوبر الذي يبدأ البرد في إعلان حضوره خلال لياليه، وأن هذا سيكون أقل واجب يمكن أن تفعله الحاجّة لجدعان مثلنا، لم يتأخروا في إغاثة الملهوفين الذين أرسلتهم إلينا في أنصاص الليالي.

كنت قد أصبحت أكثر قدرة على مسك أعصابي، فلم أعد للشتائم البذيئة، لكنني في الوقت نفسه قررت أن أقوم بتسمية الأشياء بمسمياتها، فوصفت مؤمن بأنه يثبت مرة أخرى كونه عديم الإحساس والتمييز، وأن أقل ما كان يجب أن يقترحه لحل تلك الورطة التي أوقعنا فيها، هو أن نهبط السلالم على الفور، لنطرق بعزم ما فينا على باب شقتنا المسلوبة، ونطلب من الأسرة التي احتلتها دون وجه حق، أن تغادرها في صباح اليوم التالي مباشرة، وهو ما يمكن اعتباره تفضلاً منا، لأننا كان يجب أن نطلب منهم مغادرة الشقة في التو واللحظة، بعد أن قاموا بالتدليس والكذب علينا، لكننا سنترك للأسرة فرصة البيات في الشقة لهذه الليلة فقط، راجين ألا يتم اضطرارنا إلى دخول الشقة بالقوة في اليوم التالي، خاصة ونحن أصحاب الحق القانوني فيها، وحرصت على أن أؤكد لمؤمن أننا يجب أن نقوم بذلك بأنفسنا، دون أن تتدخل فيه الحاجة أم عادل، لكي لا نمنحها فرصة للتواطؤ من جديد مع الضابط وأسرته، خاصة أنني لم أعد أصدق حكاية أن أم عادل لا تمت نحوهم بصلة قرابة، لأنها كما يتضح من شكل السقف والشباك، مشاركة ولا محالة في ذلك الملعوب الذي وقعنا فيه بمنتهى السذاجة، بفضل اندفاع مؤمن الذي لم يعد بمقدوري أن أتسامح معه، لأنه إذا كان متعوداً على البهدلة والشحططة، فأنا لست مستعداً لقبولها، خصوصاً وأنا لم أتعاف بعد من آثار تجربتي اللعينة في شقة أم ميمي وشعراوي الزِناوي.

الغريب أن مؤمن الذي تسامح مع كل شتائمي البذيئة لأن العملية في بيتها كما قال، جاءت حكاية تعوده على البهدلة ووقفت في زوره، فوقف فجأة في قلب الغرفة ملوحاً بسبابته في وجهي وقد جحظت عيناه واحمر وجهه، ليذكرني بضرورة التزام حدودي معه، وأنه صبر علي أكثر من اللازم محترماً حداثة سني، لكنه يلوم على ذلك صديقنا المشترك عمرو فلنّكة، لأنه حين عرفنا ببعضنا قبل أن نقوم بإتمام مشروع السكن المشترك، لم يشرح لي من هو مؤمن ومن هي أسرته، مضيفاً بحرارة أنه في الأصل لا يحب التفاخر بأصله وفصله، لكنني للأسف سأضطره لذلك ليعرفني بأنه ليس كييف بهدلة وقلة قيمة كما قلت، وأنه كان يمكن أن يعيش معززاً مكرماً في شقة مفروشة فاخرة بالدقي أو العجوزة، لو كان قد انصاع لأبيه ووافق على فسخ خطوبته بقريبته التي يكن أبوه لأبيها العداء منذ أن اختلفا على قطعة أرض في البلد، وأن ما دفعه إلى السكن معي في هذه البقعة البائسة من أرض الجيزة، وفي شقة متهالكة منخفضة الإيجار، هو رغبته في تحدي أبيه، وحرصه على أن يقوم بتوفير أكبر قدر ممكن من المال لإتمام مشروع زواجه من حبيبة قلبه، وأنه لم يرغب في إخباري من قبل بأصل أسرته وفصلها ومن خرج منها من نجوم المجتمع في السياسة والبيزنس، لكي لا يشعرني بالنقص، خاصة وأن عمرو كان قد حكى له عن ظروفي المهببة، وأنه لا يحكي لي كل ذلك الآن تفاخراً، بل لكي يفيقني من غفلتي التي طالت، فأدرك أنه اختار البهدلة بمحض إرادته، ولم يُجبر عليها، وهو اختيار يجب أن أتعامل معه باحترام وتوقير، لكي لا تسول لي نفسي ثانية التعالي عليه ولو للحظة، لأنه إذا كان سيتسامح معي هذه المرة لأنني أجهله، فلن يتسامح معي ثانية لو حدث وأن قللت من قيمته.

كنت أنتظر فراغ مؤمن من وصلته الغاضبة، لأقول له بأقوى الألفاظ الممكنة، إنني لست مهتماً بأصل أسرته أو فصلها، ولست راغباً في الاستماع إلى قصة حياته، وأنني لن أدخل معه في مباراة لقياس "كفاح مين منا أعرض من التاني"، وأنني كان يمكن في ظروف أفضل أن أبادله الحديث عن وقائع تمردي على أسرتي، واختياري أن أعيش كما أريد حتى لو دفعني ذلك إلى الفقر دفعاً، وأجبرني على صحبة مثله في مثل هذه البقعة البائسة من أرض الجيزة، لكنني الآن مهتم أكثر بما هو أهم، وهو أن أنام الليلة في غرفة مسقوفة، دون أن أصحو من نومي فأجده ممتلئاً بنشارة الخشب، ودون أن أعانق فأراً دخل من شباك الغرفة المفتوح على البحري ليتدفأ في حضني، لكن مؤمن قطم غضبه فجأة كما بدأه فجأة، ليقول بنبرات هادئة إنني يجب أن أدرك أن ما نعيشه الآن برغم صعوبته، هو تجربة يجب أن نكون فخورين بها، لأنها تؤكد أن الرجولة لم تنقرض من مصر، وأنني يوماً ما سأستمع إلى أبنائي وهم يحكون بمنتهى الفخر أن أباهم اختار أن يبيت في غرفة بلا سقف، تضامناً مع نساء اعتبرهن مثل أمه وأخواته، وفيما كنت على وشك الرد عليه بوصلة غاضبة مضادة، تساقطت نشارة الخشب من السقف بعد هبة هواء جديدة، لننشغل بتنفيض أنفسنا من نشارة الخشب، دون أن أنجح في تنفيض رأسي من نشارة الغضب والقلق والتوتر التي ملأته حتى حوافه، فلم يعد قادراً على التفكير في حل عاجل لا ينتهي بارتكاب جناية.

.....

نكمل في الأسبوع القادم بإذن الله...
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.