ماهي ملامح "النظام العالمي"الجديد الذي يرسمه الرئيس شي؟

التحول العالمي.. بكين ترسم استراتيجية نظام "الأقطاب المتعددة" البديل لهيمنة واشنطن

21 أكتوبر 2017
أشار شي أثناء خطابه لهذا النظام الجديد (Getty)
+ الخط -
منذ أزمة المال العالمية في العام 2007، يتراجع النفوذ الأميركي، الذي هيمنت فيه واشنطن على العالم، فيما بعد سقوط الإمبراطورية الشيوعية، كقوة آحادية منفردة. ولكن هذا التراجع بدأ يتسارع أكثر في اعقاب صعود الرئيس دونالد ترامب للحكم، كزعيم ضعيف يتكلم أكثر مما يفعل ويصطنع العداءات داخل أميركا وخارجها، وبدأت تظهر تدريجياً إرهاصات نظام عالمي جديد قائم على "الأقطاب المتعددة"، يتمحور حول النفوذ المالي والاقتصادي والتجاري الصيني وقوة روسيا السياسية والعسكرية ونهوض الاقتصادات الناشئة ممثلة في دول مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.


وقد أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ، يوم الأربعاء في خطابه أمام المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي لهذا النظام الجديد، بتكراره سبع مرات لعبارة أن الصين تخطط لدخول "مرحلة جديدة" في العقود الثلاثة المقبلة حتى العام 2050.

ورسم الرئيس الصيني في خطاب الأربعاء خطة طموحة لنمو الاقتصاد الصيني في العقود الثلاثة المقبلة بين أعوام 2020 و2050، المرحلة الأولى سيتم تنفيذها بين العام 2020 و2035 وتستهدف تحول الصين إلى اقتصاد متطور على قمة الهرم الاقتصادي في العالم، عبر بناء طبقة وسطى عريضة وخفض فوارق الثروة بين المواطنين، مع تنمية "القوة الناعمة" الصينية.


أما في المرحلة الثانية بين أعوام 2035 و2050، فقال الرئيس شي إن الصين ستصبح دولة قيادية في العالم من حيث النفوذ والثروة. وأكد الرئيس شي، أنه سيقضي على الفساد المالي وسط استمرار نهج الانفتاح الاقتصادي والمالي.
وفي قراءة لاستراتيجية الصين المقبلة، بناء على الخطاب، يمكن القول أن استراتيجية الرئيس شي تستهدف الاستمرار في بناء اقتصاد مختلط يزاوج بين الانفتاح الاقتصادي وتحرير أسواق المال والاستثمار، مع الاحتفاظ بالتخطيط المركزي في توجيه قوى الاقتصاد الكلي. كما يتبنى الرئيس شي على الصعيد الخارجي استراتيجية عولمة التجارة والاقتصاد في مقابل استراتيجية "الانعزالية وأميركا أولاً" التي ينتهجها الرئيس دونالد ترامب.

ويستفيد شي في إحكام سيطرته على السلطة رغم التحديات السياسية والفساد المالي المستشري في الصين، من النجاحات الاقتصادية التي حققها، سواء على صعيد النمو الاقتصادي الذي بلغ نسبة 6.8% في الربع الثالث من العام الجاري أو تعزيز مركز اليوان في التجارة الدولية، وكعملة احتياط في البنوك المركزية أو التوسع الذي شهد الاقتصاد الصيني في عهده وبلغ أكثر من ثلاثة ترليونات دولار.


وعلى الصعيد التجاري والاقتصادي العالمي، يعمل الرئيس الصيني، بالتعاون مع روسيا ودول الاقتصادات الناشئة، على بناء "نظام عالمي جديد"، يحل تدريجياً محل النظام المالي والنقدي العالمي القائم حالياً على الدولار وسوق "وول ستريت". فهو ينشئ بنوكاً شبيهة بالبنك الدولي وصندوق النقد، ويشكل تحالفات مع القوى الاقتصادية المؤثرة في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مثل مجموعة "بريكس"، كما يتوسع تجارياً في أسواق العالم عبر مبادرة "الحزام والطريق" التي يخطط لإنفاق أربعة ترليونات عليها خلال الفترة المقبلة.

وينطلق الرئيس الصيني في تنفيذ هذا المخطط من قوة بلاده التجارية وشبكة نفوذها في الأسواق العالمية والاحتياطي المالي الضخم المتوفر لبلاده، والمقدر بحوالى 3 ترليونات دولار.


من بين الخطط الرئيسية في بناء النظام النقدي والتجاري الجديد غير القائم على هيمنة الدولار، أسست الصين بورصة للمتاجرة في الذهب باليوان في بداية العام الجاري. كما تخطط لإنشاء بورصة للمتاجرة في النفط باليوان المدعوم بالذهب، أي أن الصفقات المستقبلية في عقود النفط يمكن تحويل قيمتها إلى ذهب.


كما أكملت في الأسبوع الماضي نظام التحويل الفوري بين اليوان والروبل دون المرور بنظام "سويفت" أو عملة أخرى في تسوية الصفقات التجارية والمالية بينها وبين روسيا. وأقنعت الصين دولة أنغولا منذ بداية العام الجاري ببيع نفطها باليوان، كما تجري فنزويلا حالياً تسعير صفقات البترول هي الأخرى باليوان.
بالإضافة إلى هذه الخطوات، تعمل الصين على تنفيذ مبادرة "الحزام والطريق" التي تمر بحوالى 30 دولة من دول العالم ورصدت لها حوالى 4 ترليونات دولار خلال الخمس سنوات المقبلة. ولم تنفق منها حتى الآن سوى نصف ترليون دولار. كما تتفاوض الصين منذ مدة لتوقيع اتفاقية تجارية مع كتلة الاتحاد الأوروبي.

بهذه القوة المالية والاقتصادية تخطط الصين لسحب البساط تدريجياً من أميركا، كقوة مهيمنة على المال والتجارة والاقتصاد ومؤسسات المال الدولية التي أسست في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتسخرها واشنطن في تكريس هيمنتها.


فالرئيس شي يدرك أن العالم بدأ يتجاوز النظم السياسية والتراكيب الحزبية القديمة، ويبحث عن قيادة جديدة تحدث التحول التدريجي من النزاعات السياسية المريرة والحروب والتمزق الطائفي والشعبوي الذي غذته أميركا خلال الحرب الباردة وسياسات "الجمع الصفري"، التي تعمل على ضرب الدول والشعوب والقوميات بعضها ببعض، ليصبح الفائز في النهاية واحدا هو أميركا والطبقة الثرية، فيما يزداد بقية سكان المعمورة فقراً وجهلاً ومرضاً وتمزقاً. وهذا ما كشفه تقرير الثروة الأخير، عن تحالف الحكومات والبنوك المركزية والطبقة الثرية ضد بقية العالم، حيث أصبحت ثروات العالم يملكها عدد لايزيد عن واحد في المائة من السكان.



وسط هذا الواقع المرير وبهدوء شديد، بدأ جنين النظام العالمي الجديد يتخلق في رحم "الأقطاب المتعددة"، بقيادة الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وباقي دول "بريكس"، إذ تبني الصين مع دول "بريكس" مجموعة من المؤسسات المالية الجديدة لإقراض الدول الفقيرة والنامية، كبديل لصندوق النقد والبنك الدولي. كما أن "القوة الناعمة" للصين تنمو مع زيادة فوائضها المالية وقدرتها على مساعدة الدول.


وبالتالي فالأذرع التي كانت تستغلها أميركا في الهيمنة الاقتصادية تتساقط تدريجياً، وتحل محلها البنوك التي أسستها الصين ومجموعة بريكس. وقد كشفت اجتماعات الصندوق والبنك الدوليين التي عقدت في واشنطن نهاية الاسبوع، أنها أشبه بحفلات اجتماعية منها باجتماعات مؤسسات مالية ترسم خطى الاقتصاد.

ويبدو أن الصين، بما تملكه من ثقل اقتصادي ومالي ستتمكن من بلورة النظام العالمي الجديد، أي "نظام الأقطاب المتعددة"، الذي سيقود العالم خلال العقد المقبل. فالاقتصاد الصيني ينمو بمعدل يقارب 7%، فيما تنمو الاقتصادات الصناعية الكبرى بما في ذلك الولايات المتحدة بمعدلات تقل عن 3.0%. وتمكن الاقتصاد الصيني من زيادة الناتج المحلي، أي الدخل العام، بأكثر من 3 ترليونات دولار خلال الخمس سنوات الماضية، حسب الإحصائيات الصينية الصادرة يوم الخميس في بكين. 


ويقدر حجم الاقتصاد الصيني حالياً بأكثر من 11.2 ترليون دولار. كما أن الصين ليس عليها ديون خارجية تذكر، بل لديها فوائض مالية تقدر بأكثر من 3.2 ترليونات دولار.

وفي المقابل فإن الاقتصاد الأميركي رغم حجمه الضخم الذي يقارب 19 ترليون دولار، إلا أنه اقتصاد مديون وضعيف الإنتاجية، قائم على تصدير الدولار وتضخيم قيم الموجودات في أسواق المال. وتشير آخر إحصائيات الدين الأميركي إلى أن حجم الدين العام الأميركي تجاوز 20 ترليون دولار وأن خدمته تقارب نصف ترليون دولار سنوياً.


المساهمون