مالطا يوك

مالطا يوك

27 ابريل 2016

نابليون أمام أبو الهول بعد احتلاله مصر (1 يناير/1900/Getty)

+ الخط -
في بلاد الشام قول شائع هو: "مثل المؤذن في مالطا"، وهو يقال للإشارة إلى الاستحالة، أو إلى عدم الأهمية؛ فمَن ذاك الذي يستمع إلى الأذان في جزيرة كاثوليكية معزولة في البحر المتوسط؟ ولهذا المثل رديف آخر هو: "مثل بطريرك في مكة"، أي لا أحد يسمع به، ولا أحد يستمع إليه. وفي الحرب العالمية الأولى، تلقى قائد الأسطول العثماني في البحر المتوسط برقية يأمره فيها أدميرال البحر باحتلال جزيرة مالطا. فجمع قائد الأسطول أركانه، وفلشوا خريطة أمامهم. وكان هذا القائد يحمل بيده شمعداناً، فوضع الشمعدان فوق الخريطة، وراح يفتش عن مالطا وموقعها. وانهمك الجميع في التفتيش، فلم يجدوها. وبعدما أعياهم العثور عليها، أرسل قائد الأسطول برقيةً إلى إسطنبول قال فيها: "مالطا يوك"، أي أن مالطا غير موجودة. وتبين أن الشمعدان وُضع فوق موقع الجزيرة في الخريطة، فحجبها عن العيون. وكانت وزارة الحربية العثمانية تخصص مبلغاً من المال سنوياً لشيوخ يقرؤون على البحارة أجزاء من القرآن وأحاديث من صحيح البخاري. وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي، صاحب قصيدة "ثورة في الجحيم" وقصيدة "مزقي يا ابنة العراق الحجابا"، نائباً عن بغداد في مجلس المبعوثان. وفي أثناء مناقشة الميزانية العسكرية، هبّ معترضاً قائلاً: إن الأساطيل البحرية في هذا العصر تسير بالبخار لا بالبخاري. فضجت قاعة البرلمان بالاحتجاج، وتعالت أصوات صائحة: زنديق، كافر، ملحد.
لا شك في أن تاريخ الدولة العثمانية الذي غمرنا طوال أربعمائة عام كان تاريخاً مهيباً، وشهد إنجازات عمرانية باهرة، لكن بعض المغرمين به ينسون أن نابليون احتل مصر في عام 1798 ولم تتحرك الإمبراطورية العثمانية للذود عن رباط الإسلام. وسكتت تركيا عن احتلال فرنسا للجزائر في عام 1830، واحتلت بريطانيا عدن والخليج العربي في عام 1839 ولم تحرك السلطنة ساكنًا. واستولت فرنسا على تونس في عام 1878، ثم تخلت عن مصالحها في مصر لبريطانيا لقاء إطلاق يدها في مراكش، ثم احتلت إيطاليا ليبيا ولم تفعل الدولة العلية أي شيء. وبهذا المعنى، فليس التاريخ العثماني كله جيدًا، بل شهد مآسي مروِّعة في بلاد الشام بالتحديد.
في عام 1954 تحالف حزب البعث في سورية مع الإخوان المسلمين واليسار والمستقلين لإسقاط أديب الشيشكلي. وحين سقط الشيشكلي لم يُطالب الإخوان المسلمون بأي ثمن سياسي كالوزارة مثلاً، بل قالوا: كل ما نطلبه هو إدخال التعليم الديني إلى المدارس السورية. وهكذا، لأول مرة في سورية، أُدخل التعليم الديني إلى المناهج الدراسية. والتعليم الديني أمر حسن إذا كان يتضمن تاريخ الأديان وعقائدها. لكنه، بالطرائق التي يحشو بها المدرسون رؤوس الطلاب، يرسِّخ الانفصال بين المواطنين، لأن دروس الدين الإسلامي يحضرها المسلمون وحدهم من دون المسيحيين، ودروس الدين المسيحي مقصورة على المسيحيين فحسب، وأنا أنصح الطلاب العرب بالفرار من هذه الدروس التي تثير التباعد والتباغض بين المواطنين. ففي استطلاع تناول ألف تلميذ إسرائيلي، عُرض عليهم السؤال التالي: هل تصرّف يشوع بن نون تصرفاً جيداً حين احتل أريحا؟ وكانت الأجوبة كالتالي: 66% قالوا إن ما فعله يشوع كان جيداً لأنه نفذ أوامر الرب. وقال قسم من الـ34% إنه أخطأ. لماذا؟ لأن العرب أنجاس، ومَن يدخل إلى أرض نجسة تحوق به اللعنة، ولهذا فإن يشوع ارتكب المعصية. والسؤال نفسه عُرض على مجموعة أخرى من التلاميذ، لكن استعيض عن يشوع بالجنرال الصيني لين الذي احتل إحدى الممالك قبل ثلاثة آلاف سنة. فجاءت أجوبة التلاميذ معاكسة تماماً لأجوبة رفاقهم، ولم يوافق على الغزو إلا 7% منهم.
التلقين يشل التفكير، والاعتقاد يلغي السؤال، فمَن أراد الراحة فليعتقد، ومَن أراد الحقيقية فليسأل (نيتشه). واستطراداً، فالسلاح لا يقتل الناس، بل إن الناس هم مَن يقتلون الناس.