مارادونا.. حياة في الكرة

مارادونا.. حياة في الكرة

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
وسط الضّجيج الذي واكب فيلم "جوكر"، الذي بدا، بسبب الإقبال الشديد عليه، وكأنّ هوليوود قد "حجزت" كل قاعات السينما في العالم من أجل عرضه، ظهر شريط مهمّ لم يُلتفت إليه كثيرا، هو "المتمرد والبطل والمحتال"، عن الأسطورة الكروية، دييغو أرماندو مارادونا. فيلم وثائقيّ تسجيلي، لكنه، نظرا إلى ما اكتنف حياة مارادونا من دراما وإثارة، بدا وكأنه درامي شائق. لا يشعر من يشاهده بتجاوزه الساعتين، فقد استطاع المخرج البريطاني، آصف كاباديا، أن يختزل أزيد من خمسمائة ساعة من التصوير في أهمّ اللقطات التي تجسّد المحطات المفصلية في حياة مارادونا، مستفيدا في ذلك من تفاصيل ومشاعر تكثيفية طبعت حياة هذا اللاعب المثير للجدل. ونجح كاباديا في الإضاءة على جميع محطات هذه الحياة الثرية، من علاقات "الأسطورة" العاطفية مع والدَيه ورفاقه، إلى أسرار حياته الخاصة في دائرته الضيّقة، من عربدة ومجون، ثم انحداره إلى الهاوية الأخطر، المخدّرات، وارتباطه، في علاقات مشبوهة، بعصاباتها ومافياتها.
واستعان مخرج هذه التحفة بتسجيلات اتصالات هاتفية نادرة، حصل على بعضها من القضاء، وعلى أخرى من الوكالة الصينية، أهمّها مكالمة بين مارادونا وأمه بعد فوز الأرجنتين، أو بالأحرى فوزه هو، بكأس العالم عام 1986. قال لها: أحبك يا أمي.. فأجابته: أنا اليوم أسعد أمّ في العالم... كما أفلح المخرج في تقديم مشاهد من طفولة دييغو البائسة بين أحياء الصفيح، حيث تغيب شروط الحياة الآدمية في حدودها الدنيا، وحلمه البسيط بأن يستطيع يوما انتشال عائلته (ثمانية أفراد) من تلك البؤرة العفِنة إلى شقة لائقة. ووُفّق كاباديا، أيضا، في التقاط فترة سطوع نجم مارادونا اللافت، واحتلاله قلوبَ الملايين من عشّاق الكرة في العالم، بعدما صنع أمجاد فريقٍ إيطاليٍّ كان منسياً، هو فريق نابولي، والذي حقّق، بفضل مارادونا، بطولاتٍ محليةٍ وقارّية.
في أحد مشاهد "المتمرّد والبطل والمحتال"، بعدما فاز "نابولي" بكأس إيطاليا، أول مرة، كانت فرحة المدينة بكيفيةٍ لا توصف، وبات المشجّعون يعيشون فوق السحاب، إلى درجة أنّ مارادونا اكتشف أنّ أحدهم كتب على جدار مقبرة، مخاطباً الموتى، "أنتم لا تعرفون ماذا فاتكم"... ثم يظهر مارادونا في مشهد آخر، يقول، عبر خلفية صوته المباشر، عن الهدف "المشبوه" الذي سجّل ضد إنكلترا، إنه شعر وكأنه ينتقم لبلاده التي كانت قد خسرت أمام بريطانيا حرب جزر فوكلاند. وكانت المباراة محطة فارقة في حياة مارادونا، أسهمت في صنع مجده، وفي تكريس اسمه لاعباً أسطورياً، فبعدما تقدّمت الأرجنتين بهدفه الذي اصطُلح على تسميته "يد الإله" (في إشارة إلى أنه إله الكرة) بعدما خدع العالم أجمع، وأسكن الكرة بيده في مرمى الحارس بيتر شيلتون، موهماً الحكم التونسي، علي بن ناصر، وكل من شاهدوا المباراة بأنه ضربها برأسه، عاد بعد ثلاث دقائق، وسجّل الهدف الأسطوريَ الذي جسّد عبقريته بحق، إذ راوغ سبعة من لاعبي منتخب إنكلترا والحارس، وأسكن الكرة في شباكه، معلناً تأهّل منتخبه إلى المباراة النهائية للمونديال، ومكرّساً اسمه أسطورةً لا تتكرّر في عالم المستديرة.
مارادونا الذي يُشعرك، وهو يداعب الكرة في الملعب، وكأنّ العالم كله منخرط في وصلة متناغمة من رقصة التّانغو، ويجعل وجوده في الملعب مبعث فرح لبقية للاعبين، ومحفّزاً لهم يرفع معنوياتهم، ويستحثّهم على إخراج كل ما في جعبتهم، ناهيك عن طريقته الفريدة في الاحتفال بأي هدفٍ يسجّل، إذ تراه يرتفع إلى الأعلى، وتشعر كأنه يتوقف لحظةً في الفضاء، قبل أن يعود إلى الأرض.
هي لحظات مهمّة في مسار هذا النجم الاستثنائي عرفت عينُ/ عدسة آصف كاباديا كيف تلتقطها، وتحوّلها إلى وثيقة سمعية - بصرية فريدة، لأحد عظماء كرة القدم. وفي المقابل، لم يتطرّق الفيلم للحظات أخرى أساسية في حياة مارادونا، خصوصا علاقته مع القائد الكوبي فيديل كاسترو، الذي قال عنه مرة "حين أرى كاسترو أشعر وكأني ألمس السماء".. ولا لعلاقاته الملفتة بالعالم العربي، بل اكتفى كاباديا بالتركيز على الدراميّ في حياة مارادونا، من صعود صاعق إلى سماء النجومية والمجد الكرويّ والإحباطات التي تخللتها، والتي تبدو كأن سخريةَ أقدار تتحكّم فيها بطريقةٍ ما، كأنْ يلعب مثلا مباراة نصف النهائي ضد إيطاليا، وأن يلعب منتخب الأرجنتين تلك المباراة في ملعب ميلانو.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي