ماذا لو لم يخترع الإنسان الإنترنت؟

ماذا لو لم يخترع الإنسان الإنترنت؟

02 ديسمبر 2017

(Getty)

+ الخط -
ماذا لو لم يخترع الإنسان الإنترنت؟ إنه يشبه السؤال نفسه الذي طرحه شارل ديغول قبل أكثر من سبعين سنة: ماذا لو لم يخترع الإنسان السلاح؟ مع كل الاختلافات التي يمكن أن ينطوي عليها السؤالان، إلا أنهما يتجاوران إلى حد بعيد. السلاح "نبي العصر" الذي أعاد تشكيل ملامح الكرة الأرضية، ورسّخ، أكثر من أي وقت مضى منطق البقاء للأقوى. والإنترنت "إله العصر" الذي أحال العالم ليس فقط إلى قرية صغيرة، بل إلى حيٍّ بحجم علبة الكبريت، تسمح لك برؤية كل شيء بضغطة زر واحدة. كلاهما صنع عالما جديدا.
"لو" لا تصنع التاريخ، ولا تشيد حضارة أيضا، لكن قراءة التاريخ بشكل معكوس أو مقلوب تسعف، أحيانا، في فهم مصير الإنسانية، فالإنترنت وسع على الإنسانية رحابة أفقها، فصار التخلي عن الماء والهواء أهون من التخلي عن شبكة الإنترنت، وصار الإنترنت مادة فلسفية تدرس في أعرق الجامعات العالمية. وحديثا جربت جامعة إسبانية شهيرة أن تضمن تيمة "الإنترنت والفلسفة" في مقرّراتها الدراسية في مجال العلوم الإنسانية. وعلى هذا النحو، لم يعد الرياضيون وعلماء الفيزياء وخبراء المعلومات وحدهم يناقشون تأثير الإنترنت على حياة الإنسان ويحللون هذا التأثير، وكذلك تغيير عوائده ونمط تفكيره وطريقة مأكله ولباسه، إنما أصبح شأنا من اختصاص السوسيولوجيين والفلاسفة وعلماء النفس.
هل أفلت الإنترنت من قبضة "حراس العلم"؟ في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين في أوروبا، انتعش النقاش بشأن حدود العلم والعلوم الإنسانية، وكانت النظرة الاحتقارية سائدة بشأن العلوم الإنسانية، متأثرة بالإرث القروسطوي الذي أحدثته الكنيسة، إذ كان الشعب ينظر إلى كل الأشياء المنافية للعلم بأنها تنتمي إلى الدين. قال ديكارت، في حمأة هذا الصراع المحموم الذي أفضى إلى نشوء النهضة الأوروبية، إن الفلسفة شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء، أما فروعها فتمثل باقي العلوم الأخرى. وبالموازاة مع ذلك، راكم الروائيون والفلاسفة والشعراء والتشكيليون الأوربيون منجزا أدبيا وفلسفيا كبيرا، أسس للنهضة الأوروبية، وانتعشت حركة التأليف والكتابة في ميادين مختلفة، وارتادوا مجالاتٍ أخرى، كانت حكرا على العلم التجريبي الدقيق، بيد أن الشجرة التي تحدّث عنها ديكارت استحالت إلى غابة كبيرة مع ظهور الإنترنت، فلا أحد قادر اليوم أن يقيم حدود التمايز بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة.
أحدث الإنترنت أزمة حقيقية في العلوم، وأزمة حقيقية في مفهوم القيم الإنسانية، وشرخا حقيقيا 
في مفهوم الزمن، وثورة في البحث عن كواكب جديدة، وغيّر أنظمة وأباد أخرى، وحمى دولا وابتزّ أخرى، تسلل إلى أدق حميميات الإنسان، أحال علاقاته إلى مجرد أشياء "تباع وتشترى"، خرّب بنيات مجتمعية بكاملها، فتت مفهوم الأسرة والمراقبة الاجتماعية، صنع أبطالا من ورق، وهمّش مبدعين حقيقيين، روّع الناس، أزعج السياسيين، جعل "شعيب" المغربي في أقاصي الجبال يتزوّج "فيرونيكا" المدينية في الحد الأقصى للغرب الأميركي، أسقط "أسطورة" الخصوصية المحلية، تجاوز مفهوم الدولة الوطنية، وصيّر كل معاملات العالم محكومة برقمين "صفر" و"واحد"، وخارج هذين الرقمين يوجد العدم.
والعدم هم العبيد الجدد. في القديم، كان الاستعباد يعرّف بأن بشرا مصنوعا من الدم واللحم يبيع ويشتري في أخيه من المكوّنات نفسها في الأسواق، أما الآن، فالاستعباد اكتسى لبوسا ناعما جدا. ناعما إلى الدرجة التي تسلم نفسك إلى مستعبدك معصوب العينين، من دون أدنى مقاومة: هل تحتاج أميركا اليوم إلى أن تقطع عليك الماء والغذاء كي تموت؟ هل تحتاج إلى أن تفرض عليك عقوباتٍ اقتصاديةً، كي تتضوّر جوعا؟ هل هي في حاجة أن تغلق بنوكك، وتصادر أرصدتك، كي ينتهي نظامك الاقتصادي؟ ثم هل هي بحاجة إلى تعبئة الجيوش والأسلحة الحديثة لتبيدك؟ لست أبدا في حاجة إلى ذلك، يكفي فقط أن تقطع عنك شبكة الإنترنت، وتتجسس على أنظمتك، وتحصي أنفاسك، وتقتحم حميمياتك من دون استئذان، وتترصد مكالماتك. ألم تقل التقارير إن وكالاتها الاستخباراتية صارت تثبت وسائل التجسس، حتى في أجهزة التلفزة؟
الإنترنت قادر اليوم ليس فقط على التحكّم في حياة الأفراد، بل أيضا في مصير الأمم والشعوب. ولم تنس الدول الكبرى أبدا الغاية الأولى لاختراعه، أي استخدامه في أغراض عسكرية. والعسكر لا يعني، بأي حال، الجيوش الجرّارة والطائرات والصواريخ.. العسكر هذا الاستعباد العالمي الجديد باسم الحق في الإنترنت.
74AD5A34-70D7-4644-B9D7-27E2AD11A2B6
74AD5A34-70D7-4644-B9D7-27E2AD11A2B6
محمد أحداد
محمد أحداد