ماذا فعل اليسار التونسي بنفسه؟

ماذا فعل اليسار التونسي بنفسه؟

29 يوليو 2019

أنصار للجبهة الشعبية في الانتخابات البلدية في أريانة (27/4/2018/Getty)

+ الخط -
كان تشكل الجبهة الشعبية سنة 2012 المحاولة الأكثر جدّية لتوحيد أهم فصائل اليسار التونسي في كيان سياسيٍّ خاضت تحت لوائه الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2014، واستطاعت الجبهة الاستفادة من حملاتها الدعائية، بعد اغتيال اثنين من أبرز رموزها، وأوصلت 15 نائبا إلى البرلمان، فيما يعتبر أفضل نتيجة ممكنة حققها اليسار التونسي منذ بداية انفتاح الحياة السياسية التونسية.
تحول حلم اليسار التونسي تدريجياً إلى نوع من الكابوس بشكل متسارع، بدأ بانهيار البنية الداخلية للجبهة، وتفكّك أواصرها، مع مطالبة بعض قياداتها بتدوير منصب الناطق الرسمي للجبهة، وترشيح شخصية أخرى غير المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، وهو ما أسفر عن انفجار الصراع على أشدّه في شكل تصريحاتٍ ناريةٍ متبادلة بين قيادات حركة الوطنيين الديمقراطيين، وهو أحد مكونات الجبهة، وحمّة الهمامي، زعيم حزب العمال المهيمن فعليا على الجبهة. وتصاعد النزاع نحو انشقاق الكتلة النيابية للجبهة، والتي أصبحت أثرا بعد عين، غير أن ما جرى لاحقا هو بداية انتقال الصراع من مرحلة حرب التصريحات إلى حالة من افتكاك المواقع وتبادل التهم، وصولا إلى ممارسة أشكال من العنف والإفساد المتبادل للاجتماعات.
إثر انشقاق الكتلة النيابية للجبهة، عمد المنشقون إلى الإعلان عن تأسيس كتلة نيابية جديدة، 
تحمل الاسم نفسه، ثم شرعوا في تنظيم اجتماعات شعبية للتواصل مع القواعد، وتبرير ما فعلوه، وجديد هذه الاجتماعات كانت في مدن أريانة وبن عروس والمهدية. وعرفت كل هذه الاجتماعات حالة من تبادل العنف اللفظي والبدني، الأمر الذي كشف عن مدى اتساع الهوة بين الشقين المتنازعين، فميراث الجبهة أصبح محل صراع بين مجموعة الأحزاب الملتفة حول رئيس حزب العمال، حمّة الهمامي، والأحزاب المتحالفة مع حركة الوطنيين الديمقراطيين.
لتصل حالة الاشتباك إلى مرحلة افتكاك الاسم، خصوصا بعدما أعلن حمّة الهمامي أن اسم الجبهة الشعبية هو مسجّل باسمه، باعتباره ملكيةً خاصةً بالمعهد الوطني للمواصفات والملكية الصناعية، ليتحرّك الشق الآخر نحو الاستعانة ببعض الموالين له الذين قدموا طلبا للحصول على ترخيصٍ لحزب سياسي جديد، يحمل اسم حزب الجبهة الشعبية، والذي حصل بالفعل على تأشيرة رسمية، وهو ما يعني سحب الشرعية عن الهيكل السياسي القديم باعتباره ائتلافا حزبيا، وليس حزبا، ليفاجأ حمّة الهمامي باتصال من الهيئة العليا للانتخابات تعلمه أن القوائم الانتخابية للجبهة لا يمكن قبولها باعتبار وجود حزب سياسي يخوض الانتخابات بالاسم نفسه.
لقد تجاوز الصراع حالته الانشقاقية، ليدخل مرحلة حرب الإلغاء والإقصاء المتبادل، خصوصا في ظل اتهام حمّة الهمامي الشق الآخر، بكونهم لعبة في يد رئيس الحكومة، وإنهم يخدمون أجنداتٍ مشبوهة. وإذا كان من المعتاد أن يتبادل اليساريون الاتهام بالعمالة والخيانة، إلا أن هذا القاموس المعجمي لم يعد مقنعا، لتفسير ما يجري، فأزمة الجبهة الشعبية تعود إلى فوضى 
خياراتها السياسية، وانعدام التسيير الديمقراطي، وعجز فصائل اليسار عن مجاوزة إرثها الستاليني المغلق، القائم على فكرة امتلاك الحقيقة، وصوابية الخط الواحد وعدم قبول التعدّد، بالإضافة إلى الأمراض المزمنة التي راكمتها هذه الفصائل زمن العمل السري، سواء في زعاميتها المفرطة، حيث يعتبر كل مسؤول حزبي في اليسار نفسه زعيما لا يشق له غبار، ولا يمكن تغييره أو التشكيك في قدراته السياسية الفذّة من جهة، بالإضافة إلى الصراع الفصائلي منذ زمن التشكل في الفضاء الجامعي التونسي سنوات السبعينيات والثمانينيات، حيث تصادمت خطوط العمل الحزبي اليساري، سواء تلك المستندة إلى الإيديولوجيا الماوية (مجموعات الوطنيين الديمقراطيين) أو الإيديولوجيا الستالينية – الخوجية (نسبة للألباني أنور خوجة) التي يعتنقها حزب العمال. ومنذ الاتهامات المتبادلة بالتحريفية وخدمة الإمبريالية، وعلى الرغم من الهدنة المؤقتة التي عرفتها فصائل اليسار في ظل وجود عدو إيديولوجي مشترك، يبدو أن فصائل اليسار التونسي قد عادت إلى مربعها التاريخي الأول، وكشفت التجربة الديمقراطية عن قصورها السياسي، وعجزها عن التشكل بوصفها كيانا حزبيا قادرا على أن يصبح بديلا للقوى الليبرالية واليمينية المحافظة في البلاد.
معضلة اليسار التونسي ليست في قوة خصومه الإيديولوجيين، ولا تماسك خطابهم أو قوة أدائهم في السلطة، بقدر ما تتمثل مشكلتهم في إصرارهم على تدمير أنفسهم بإرادة ذاتية ناتجة عن غياب القدرة على التطوير، وتكلّس الخطاب والعجز عن مسايرة التحولات السياسية في البلاد، وهذه هي ملامح فناء مشروع الجبهة الشعبية في تونس.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.