ماذا عن تونس بعد الانتخابات؟
ماذا عن تونس بعد الانتخابات؟

باحت أول انتخابات تشريعية تجري بعد الثورة في تونس بأسرارها بتصدّر حركة نداء تونس بـ85 مقعداً، تليها حركة النهضة بـ69 مقعداً، فيما كان الاتحاد الوطني الحر (ليبرالي)، برئاسة رجل الأعمال سليم الرياحي، مفاجأة هذه الانتخابات بحلوله ثالثاً بـ16 مقعداً، وحلت الجبهة الشعبية (ائتلاف قومي يساري)، رابعة بـ15 مقعداً، ما يعني تغيّراً جذرياً في المشهد السياسي التونسي.
ويعزى هذا التحول إلى عدة عوامل، أهمها انهيار نتائج الحزب الجمهوري (الديمقراطي التقدمي سابقاً)، إضافة إلى مكوني الترويكا الآخرين: المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات؛ فالمؤتمر والجمهوري قد تفككا تنظيمياً؛ فالأول تفكك إلى ثلاثة أحزاب هي المؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي (بزعامة محمد عبو)، وحركة وفاء (بزعامة عبد الرؤوف العيادي)، وهو ما أدى إلى تشتت أصوات المؤتمر بين مكوناته الجديدة.
أما الجمهوري، فقد كلّفه تباين سياسته الداخلية انهيار الانصهار بين مكونات الديمقراطي التقدمي وآفاق تونس إلى ثلاثة أحزاب، هي الجمهوري (بزعامة نجيب الشابي)، وآفاق تونس (بزعامة ياسين إبراهيم)، والتحالف الديمقراطي (بزعامة محمد الحامدي).
ولئن نجا التكتل من التفكك، إلا أن ضعف أدائه السياسي داخل المجلس التأسيسي والتجاذبات بين عناصر كتلته النيابية ذات العلاقة بالأداء الحكومي في مرحلة أولى، ثم باعتصام باردو في مرحلة ثانية، قد أدى إلى انهيار نتائجه الانتخابية.
محلياً، لا تمثل هذه النتائج مفاجأة كبيرة، إذا ما استثنينا نتائج الاتحاد الحر، إذ إن الاستقطاب الثنائي بين أكبر حزبين في البلد بلغ أوجه أثناء الحملة الانتخابية. لكن حدة الخطاب تغيّرت بعد النتائج، وإصرار كل طرف على انتهاج الحوار والتوافق سبيلاً لتجنيب البلاد مأزقاً سياسياً قد يعصف بحالة الاستقرار الهشة.
واقعياً، هناك ثلاثة تصورات محتملة قد يتحقق أي منها في ضوء ما ستسفر عنه نتائج الرئاسيات، خاصة في ظل نتائج التشريعيات الحالية التي لا تعطي أي طرف الأفضلية في الاستئثار بالأغلبية المطلقة، وهو ما يهدد بدخول البلد في حالة من انسداد الأفق السياسي خاصة إذا ما تعنت أي طرف بخصوص أيٍ من مطالبه، وهو ما يحيلنا إلى الخيارات المطروحة على الطاولة أمام كل طرف، وهي على التوالي:
● حكومة وحدة وطنية برئاسة مستقل مع تحييد وزارات السيادة:
يبدو هذا التصور الأقرب للواقع، خاصة بعد تتالي التصريحات من قادة نداء تونس حول الحكم المشترك والتشاور والتعهّد بعدم التغوّل في حالة فوز حزبهم بالرئاسيات، حيث قال خميس قسيلة، القيادي في نداء تونس، إن حزبه منفتح على كل الخيارات في ما يتعلق بالحكومة المقبلة، بما في ذلك حكومة كفاءات وطنية. أما في ما يخص حركة النهضة، فأبدت على لسان العجمي الوريمي، خلال لقاء متلفز، أنه لا وجود لحديث عن تحالف ممكن بين النهضة ونداء تونس غير أن حزبه سيكون في الموقع الذي يحفظ مصلحة البلد.
بقي أن نقول إن هذا التصور هو الأقرب للتحقق واقعياً، لكنه يبقى رهناً بمخرجات الحوار الوطني المتوقع استئنافه بعد نتائج الرئاسيات نهاية هذا الشهر، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الضغوط الدولية التي تصب في هذا الاتجاه، خاصة من الصناديق المقرضة، والتي قد توقف برامجها مع حكومة لا تتمتع بقاعدة سياسية تسمح لها بحرية تنفيذ الاتفاقيات.
● حكومة حزبية تضم النهضة ونداء تونس:
يأتي هذا التصور، حسب الملاحظين، في المرتبة الثانية من حيث إمكانية حدوثه، إذا لم يفز مرشح نداء تونس بالرئاسيات.
فمن وجهة نظر توافقية، فإن دخول حركة النهضة في حكومة حزبية سيخفف عنها ثقل حمل المعارضة لكنه سيتسبب بشكل مباشر في تآكل قاعدتها الشعبية، خاصة مع اعتبار نسبة هامة من قواعد النهضة أن حركة نداء تونس تمثل إعادة إنتاج لحزب التجمع المنحل. هذا التصور يؤثر أيضاً على الطرف الثاني في الحكومة، وهو نداء تونس، حيث إن الشق اليساري يرفض أي تقاطع مع النهضة، وهو ما قد يعجّل في انفجار الحزب، الذي يقدم نفسه كأحد أبرز الأحزاب في الساحة السياسية ويستعد لخوض غمار محطات أخرى كالانتخابات البلدية، خاصة إذا علمنا أنه تنظيم حزبي غير متجانس فكرياً، فهو يضم إضافة إلى الدستوريين، بعض المستقلين ونقابيين ويساريين.
قد تصمد هذه الحكومة لفترة، لكن معظم التوقعات تشير إلى إمكانية انهيارها مع أول هزة سياسية تضرب البلد.
● حكومة حزبية لا تشارك فيها النهضة:
حسب مراقبين، يبقى هذا التصور بعيد التحقق، لكنه قابل للتحقق، خاصة مع دفع الطرف اليساري في نداء تونس نحوه، حيث يعتبر أنه لا تقاطع مع حركة النهضة أو بقية مكونات الترويكا بسبب اختلاف البرامج والرؤية. لكن يبقى هذا التصور بعيداً عن الواقعية لعدة أسباب، أهمها أن البلد لا يحتمل إبعاد أي من القوى السياسية الكبرى عن أي تفاهم بشأن الحكومة، وهو ما من شأنه إدخال البلد في حالة من الانسداد السياسي، وما إلى ذلك من أثر على الوضع الاقتصادي المحلي.
يبقى الوضع السياسي التونسي مرهوناً بعدة عوامل، أهمها مخرجات الحوار الوطني ونتائج الرئاسيات ومدى قدرة الفاعلين السياسيين على التوافق وإعلاء مصلحة البلد قبل المصلحة الحزبية. فقد أثبتت حركة النهضة مرونة كبيرة في أدائها السياسي وإدارتها للشأن العام، فيما يبقى أن يثبت بقية اللاعبين السياسيين مقدرتهم على ذلك.