مأزق لغتنا العربية وبلادها: التحرير... كاحتلال

مأزق لغتنا العربية وبلادها: التحرير... كاحتلال

16 أكتوبر 2014
من عنق اللغة يربط الاستبداد رسنه في الأجساد (Getty)
+ الخط -

اللغة لا تحمل المعنى فقط، بل تحمل الواقع، من دون أن تدري. وحين تتغيّر مقاصد الكلمات الأساسية، فهذا يعني أنّ المعنى يتغيّر. واستطراداً، معنى وجودنا، ومعنى سعينا كلّ يوم إلى جديد أو هدف، سياسيّ أو اجتماعيّ أو شخصيّ.

وأحد أهداف الإعلام الرئيسية تغيير فهمنا لبعض الكلمات الأساسية، أو اللعب على المحمولات الدلالية لهذه الكلمات. وربّما كانت "الديمقراطية" ساحة النقاش الأبرز حول العالم، في كيفية فهمها وتطبيقها. فهل هي تعني "انتخابات" كيفما اتّفق؟ وهل إذا أتت الانتخابات بـ"الإخوان المسلمين" في مصر مثلاً يصير ضروريا التخلّي عنها؟ وهل الديمقراطية تكون بـ"جيش غزو أجنبيّ"؟ وقِس على ذلك.

لكن في الوطن العربي كلمة أخرى يمكن أن نقيس عليها كيف أنّه من عنق اللغة يربط الاستبداد رسنه في أجساد هذه البلاد التي نعيش فيها. و"الاستبداد" ليس بوصفه جهةً أو دولةً أو شخصاً أو نظاماً، بل بوصفه "مُنتجاً" لا تنفكّ مجتمعاتنا تُنتِجُه كلّ يوم، قبل ثورات "الربيع" وبعده.
هذه الكلمة هي "التحرير"... 

التحرير بوصفه عملاً بطولياً يقوم به شخص أو جهةُ أو دولةُ، خارجية طبعاً. وهو "يركب" على موجة أحلام شعب كامل يريد التخلّص من احتلال أجنبيّ، كما كان الحال في جنوب لبنان قبل عام 2000، أو يريد التخلّص من ديكتاتور مجنون، كما كان الحال في العراق قبل الغزو الأميركي في عام 2003، أو يريد التخلّص من ديكتاتور محليّ، كما كان الحال في تونس قبل أن يحرق محمد البوعزيزي جسده في 2010 معلناً بدء سلسلة تحرّكات شعبية ستغيّر كلّ شيء من المحيط إلى الخليج العربي.

فلنبدأ من جنوب لبنان إذاً. "تحرير" الجنوب في عام 2000 كان فرصة لإمكانية "نشر" مفهوم "التحرير" في لبنان، ليطوف على البلاد العربية. التحرير الذي يبدأ بطرد المحتلّ الإسرائيلي من الأرض التي يحتلّها، ثم يُستَكمَلُ في تحرير الإنسان اللبناني. ليست جملة كليشيهية. "تحرير الإنسان" يعني أن تصير لقمته حرّة، وأن يختار مصيره، وأن يختار ممثّليه في المجالس الديمقراطية، وأن يأكل من دون منّة من زعيم أو دول أجنبية، وأن يعمل من دون "واسطة" أو "زبائنية"، وأن يحبّ من دون رقابة، وأن يشاهد المسرحيات والأفلام، وأن يقرأ الكتب من دون مضايقة أو منع.

لكنّ "حزب الله" وحركة "أمل"، الحزبين "الحاكمين" في جنوب لبنان، قرّرا أن يجعلا من هذا الجنوب "نسخة" عن النظامين الديكتاتوريين اللذين يتبعان لهما، في سورية وإيران. وبات الجنوب أشبه بالشام وطهران، بدل أن يصير جبلا تنظر إليه مدن سورية وإيران والعراق، وتحلم الشعوب العربية أن تلحق به كنموذج في طرد الاحتلال الإسرائيلي، وطرد احتلال الأمن، واحتلال الاقتصاد والاجتماع والدين...

وانتهى "تحرير" جنوب لبنان إلى أن صارت القوّة العسكرية والبيئة الحاضنة لها، التي ساهمت في هذا التحرير، قوّة "احتلال" في سورية، تدعم نظام الأسد، وتقمع الثورة السورية، وتحتلّ جزءًا من الأراضي السورية. وتكاد تصير قوّة احتلال في العراق أيضاً. وتحاكي بالطبع نموذج "الاحتلال" الذي تخلّصت منه، بدل أن تجعل الآخرين يحاكون نموذج "التحرير" الذي ساهمت في صناعته.

بعدها كان "تحرير العراق" في عام 2003. أيضا بدت معدومة المسافة بين "التحرير" و"الاحتلال". فالجيش الأميركيّ احتلّ العراق بحجّة "تحريره"، ثم فوّت فرصة أن تتطلّع الشعوب العربية إلى "النموذج العراقي". فالاحتلال الأميركي تسبّب في مئات آلاف القتلى والجرحى، وخرجت من كواليس ادّعاءاته الديمقراطية فضائح بالجملة، ليس أبرزها فضيحة تعذيب العراقيين في سجن أبوغريب. أضف إلى ذلك أنّ نسب الأميّة لم تتراجع بعد "التحرير" الاحتلاليّ، بل زادت نِسَبُ الجريمة، وبات الشعب العراقي شعوباً متحاربة، ومذاهب متنافرة، وبات الدم إلى ركاب الجميع.

وبين هذا وذاك كان "تحرير فلسطين"، هو القبلة التي يحجّ إليها كلّ حزب محليّ في الدول العربية، يطمح إلى "قيادة الأمّة"، من جمال عبد الناصر وصولا إلى حسن نصر الله. وكلّ الأنظمة الديكتاتورية العربية، من معمّر القذّافي إلى آل الأسد، مرورا بغيرهم من حكّام الأبدية العربية من منتصف السبعينيات إلى أطراف الربيع العربي. وكان هؤلاء يحتلّون خيرات شعوبهم بأن يُنيّمون محازبيهم ومجتمعاتهم على وعود "تحرير القدس".

وما إن أزفّ الربيع العربي حتّى بدأ الحكّام الجدد، وهم نسخ غير منقّحة عن سابقيهم، بدأوا يغدقون وعود "التحرير" و"الديمقراطية"، بوصفها "تحريرا" للشعوب من استعباد الديكتاتوريين المخلوعين، من تونس إلى مصر واليمن والبحرين، وصولا إلى ليبيا وسورية وغيرها.

سنوات أربع فقط، تبيّن بعدها أن مليشيات العشائر الليبية لا تقلّ عنفا ودموية عن القذّافي، وأنّ مشروع عبد الفتّاح السيسي لا يقلّ وقاحة وظلما عن نظام حسني مبارك في مصر، وأنّ داعش لا تقلّ دموية عن آل الأسد وعن صدّام حسين في سورية والعراق... وهكذا احتلّت داعش صدارة المشهد، مبشّرة بـ"احتلال" الحيّز الديني، فوق الحيّزين السياسي والاجتماعي اللذين كان الاستبداد الأمني يحتلّهما. وكانت "داعش" أيضاً تحمل راية "تحرير" المجتمع من الكفر والظلم والاستبداد.

هكذا، في كلمة واحدة، يمكن اختصار مأساتنا العربية التي تبدأ في اللغة وتنتهي فيها. حيث إنّنا شعوب "لغوية" أكثر من غيرنا من الشعوب واللغات.

وحين يصير "التحرير" في اللغة يعني "الاحتلال" في الواقع، فهذا يعني أنّ مجتمعاتنا تعاني انهيارات كبيرة جدّا، وتعاني من قصور مريع، ومن عجز عن فهم الواقع وتقبّله، وغير قادرة على تسمية الأشياء بأسمائها، رغم ما يقارب المليوني قتيل منذ "تحرير العراق" في عام 2003، وصولا إلى معارك "تحرير سورية" في عام 2014.

والحال هذه، فإنّ اللغة نفسها "محتلّة"، من دون منّة من أحد. وهنا فإنّ "الاغتصاب" الجماعي للغة، وللواقع استطراداً، يجعلنا ننجب أسماء وكلماتٍ وتسمياتٍ تزيد من عجزنا وقصورنا وانهيارنا.

دلالات

المساهمون