مآسي غزة تنعي الضمير العالمي

بعينين تجمد الدمع في محجريهما، لهول ما تتناقله وسائل الإعلام العربي والغربي من صور مأساوية، وما تتبادله مواقع التواصل الاجتماعي من مشاهد تراجيدية، وقلب منفطر من فرط الآلام والأشجان، وأنامل أفقدها الرعاش القدرة على التحكم في إمساك القلم، ورسم جزء يسير مما يجري في غزة العصية على الاستسلام، من مجازر جماعية، وجرائم همجية ضد الإنسانية، جراء القصف الإسرائيلي المجنون، وقفت مشدوهاً بالكاد أستطيع التقاط أنفاسي، أمام ما تحمله الأنباء من حصائل يومية مرعبة لضحايا العدوان الوحشي.
ففي زمن القهر الاقتصادي والعهر السياسي، زمن البغي والاضطهاد، زمن الظلم والاستعباد، زمن المتاجرة اللاأخلاقية بقضايا الأوطان والشعوب، تحول العالم إلى غابة مترامية الأطراف، تعود الغلبة والهيمنة فيها إلى الأكثر وحشية وضراوة. ولعل ما يؤكد ما ذهبت إليه من توصيف، هو تمادي الغطرسة الصهيونية، في انتهاكٍ واضحٍ وفاضح للمواثيق الدولية والقانون الدولي، عبر اغتصاب الحق الفلسطيني، واعتداءٍ سافر على سيادته وأمنه، والتنكيل بالشعب الأعزل والتمثيل بالجثث والأشلاء، على مدار أزيد من ستين عاماً، وبمباركة غربية صريحة تُصاغ قرارات التأييد في الولايات المتحدة الأميركية، الراعية الأولى لإسرائيل، الساهرة على أمنها وسلامتها، والحريصة على تزويدها بكل أشكال الدعم المادي واللوجستي، على حساب عملاء الأنظمة العربية المتواطئة.
بالأمس القريب، لم تكن القضية الفلسطينية التي ناصرها كبار الشعراء والحقوقيين والأدباء، قضية الشعب الفلسطيني وحده، بل كانت القضية المركزية للأمة العربية، وكل شرفاء العالم المؤمنين بالحرية والديمقراطية، على غير حالها في أيامنا الشقية هذه، التي تتميز بتخاذل عربي مكشوف، وتتسم بموت الضمير العالمي. وطبيعي أن يستمر الصهاينة في ممارساتهم العدوانية، ما دام ما يجري في أقطارنا العربية لا يقل فظاعةً عن غاراتهم الجوية، وحملاتهم البرية، حيث طيران النظام السوري يلقي براميل الموت المتفجرة على شعبه، نهاراً جهاراً، من دون رادع. تعددت التطاحنات الطائفية، واختلفت أشكال الإرهاب، تشابهت آلات القتل والدمار الماحق في غزة وسورية والعراق وليبيا واليمن، تُسوّى الجبال والمباني بالأرض، يمتزج الماء بالدماء، وتُحصد أرواح الأبرياء من كل الأعمار، وفي البطون قبل الميلاد. التخريب والتقتيل والتشريد: كلها مفردات تدل على بشاعة الإنسان وتدمير الحضارات.
وكأن قدر غزة أن تتوالى عليها النكبات، إذ هي، اليوم، تقف مرة أخرى بين النيران الحارقة تستصرخ ذوي الضمائر الحية، تنبعث من رمادها، على الرغم من صواريخ الغدر ودبابات القهر. ووحدها المقاومة الفلسطينية عرفت كيف تتحول إلى شوكةٍ في حلق العدو المتجبر، وتفند مزاعم أتباعه من المتصهينين، الذين حكموا عليها بالرضوخ لمشيئته، أو الفناء تحت قدميه. فلها رجال أحرار، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يسارعون إلى تلبية ندائها والذود عن كل حبة رمل من ترابها، ووراءهم نساء تشد أزرهم، بإنجاب مزيدٍ من الأبطال. كل الفصائل الفلسطينية، بمختلف أطيافها، تآلفت ووقفت سداً منيعا ضد العربدة التتارية، وبشموخ الصناديد الكبار تصدت للإبادة الجماعية، وعقدت العزم على استنهاض الهمم، لتكسير كبرياء المحتل بصواريخها التقليدية ذات الصنع المحلي، دفاعاً عن الشرف، وعما تبقى من كرامة الإنسان العربي. فمن أرض غزة المباركة، حيث يرقد هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للرسول الكريم، محمد، عليه الصلاة والسلام، هبت سنة 1987 من قلب مخيم جباليا، انتفاضة الحجارة، التي دوخت الجيش الصهيوني الجبان، ومنذ إجلاء مستوطنيها سنة 2005، لم تتوقف إسرائيل عن تفجير بغضها، وكراهيتها للعرب والمسلمين، وزرع الفتنة بين الإخوة الفلسطينيين. وما يغيظها كثيراً ويصيب جنودها بالسعار، هو قرار أية مصالحة وطنيةٍ، تعيد اللحمة إلى الجسم الفلسطيني، ولا سيما بين منظمة "فتح" وحركة "حماس".
لذلك، استغل الكيان الإسرائيلي فرصة الخلاف بينهما، وعمل على تحويل القطاع إلى سجن كبير لحماس، بجعله منذ 2007 خاضعاً لجبروته، تحت حصارٍ قاس من جميع الجهات، ثم جاء دور مصر في عهد عبد الفتاح السيسي، لتتفاقم الأوضاع الاقتصادية، وتبلغ أوج التردّي والتأزم، ولولا العيش على بعض المساعدات، لمات أهل غزة جوعاً وعطشاً، من دون الحاجة إلى كل تلك الترسانة الحربية، التي تريد، من خلالها، إسرائيل تضليل الرأي العام الدولي بذريعة مكافحة الإرهاب، لاجتثاث جذور المقاومة، التي لا سلاح لها أقوى من إيمانها الراسخ بعدالة قضيتها، وإصرارها الدائم على الصمود حتى النصر.
واهمٌ من يعتقد أن الحرب الصهيونية القذرة حربٌ تدار لتدجين حركة حماس، أو نزع سلاح المقاومة، أو تدمير الأنفاق ومخازن الصواريخ، ثم الإعلان عن نهاية المهمة بنجاح، فقط، بل هي حرب مصيرية ضد الفلسطينيين، ومن يقف إلى جانبهم لتحرير أراضيهم. فلا ينبغي التعويل كثيرا على رفع شعارات التنديد وتنظيم مسيرات التضامن، وألا نجعلها تحجب عنا رؤية حقائق العدوان الإسرائيلي، وسعيه الحثيث إلى تنفيذ مخططاته الجهنمية لخدمة أطماعه التوسعية، مستغلا انشغال العالم بإعادة ترتيب أوراق منطقة الشرق الأوسط. وعلى الشعب الفلسطيني إنهاء خلافاته وتغليب المصلحة القومية العليا لمواجهة العدوان المتواصل، لإقامة دولته الحرة الأبية على أرضه المسقية بدماء الشهداء الزكية. وعلى البرلمانات والحكومات العربية تجميد العلاقات مع الكيان الصهيوني وفتح معبر رفح بشكل دائم لفك الحصار، ومقاطعة السلع الإسرائيلية، ومطالبة القادة العرب بالتخلص من التبعية العمياء، لئلا يكونوا أقل جرأة وإنسانية من رؤساء دول أميركا اللاتينية الخمس، الساحبين سفراءهم احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، البرازيل، السلفادور، تشيلي، بيرو والإكوادور، فضلاً عن بوليفيا، التي أعلنت أن إسرائيل دولة إرهابية، وذلك بالعودة إلى استعمال سلاح النفط، والضغط على الكيان الصهيوني، وحلفائه الغربيين، والكفّ عن إدمان التطبيع مع العدو والإساءة إلى المقاومة الفلسطينية الصامدة.