ليلة حارّة في مدينة منسية

ليلة حارّة في مدينة منسية

21 يناير 2020
يميل العرض إلى الكوميديا بعكس الاتجاه السائد (فيسبوك)
+ الخط -
إنها ليست المرة الأولى التي تحضر فيها شخصية الكاتب على الخشبة في العروض المسرحية السورية؛ شخصية الكاتب الذي يحاول أن يعيد صياغة الأحداث والحكاية أمام الجمهور على الخشبة. هذه الشخصية يعود تاريخها في المسرح العالمي لبدايات القرن الماضي، وبالتحديد إلى مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" للإيطالي لويجي برانديلو التي أثرت بعشرات المخرجين السوريين ليصدروا عدة نسخ منها، غطوا بها جميع صالات العرض المسرحي في سورية، وكان لها أثر كبير أيضاً على كتاب المسرح السوريين، فحضرت هذه الشخصية بالكثير من المسرحيات، وحتى بعد أن وصل المسرح السوري إلى حالة التشظي الناجمة عن الحرب والاغتراب، فاعتمد العديد من الكتاب المسرحيين على هذا الأسلوب المسرحي في عروضهم خارج سورية، كما فعل الكاتب والمخرج ساري مصطفي بمسرحية "انزياح"، التي قدمها في لبنان قبل سنتين.
لكن الأمر الجديد في مسرحية "ليلة حارة صيفية في مدينة منسية"، التي أنتجها أسامة الحفيري في بلد إقامته الجديد، وشاركت ضمن النسخة الأخيرة من مهرجان قرطاج المسرحي في تونس، وستشارك بالأشهر القادمة في مهرجان "ليالي المسرح الحر" في عمّان؛ هو أن الحفيري أقحم شخصية الكاتب بعرضه من خلال نموذجين، يتمتع كل منهما بمنظور مغاير للآخر. النموذج الأول، هو الكاتب الذي يصوغ أحداث المسرحية من الخارج، والذي حضر بالعرض من خلال صوت أسامة الحفيري نفسه وهو يقوم بتأليف المسرحية لتتجسد مباشرةً على الخشبة. أما النموذج الثاني؛ فهو بطل المسرحية، مجد الحفيري، الذي يحاول أن يتمرد على مسرحيته والظروف الزمانية والمكانية التي وُجِد بها.
اعتمد الحفيري في إخراجه لنصه على تداخل ثلاثة عناصر فنية رئيسية، وهي: الأداء التمثيلي، والرقص التعبيري المنفرد، الذي أدّته الراقصة والكريوغراف سجا النوري، بالإضافة لحضور الشاشة على خشبة المسرح، والتي كان لها الدور الأبرز برسم معالم السينوغرافيا في العرض.
في لقاء خاص لـ"العربي الجديد"، يتحدث الحفيري عن المزيج الفني الذي صنعه في مسرحيته: "منذ أن قمنا بتأسيس شركة "وايت فلاكس" قمنا بالعمل على مشاريع فنية متعددة لم يكن المسرح من ضمنها، فأنتجنا مشاريع فيديو آرت وفيجوال آرت وسينما قصيرة وعروضا راقصة حية. ولكن في الفترة الأخيرة كان لدينا رغبة بالعمل على مشروع مسرحي يمثلنا، ولكن يبدو أنه بعد الأزمات الكبيرة التي مررنا بها كان من الصعب علينا إيجاد نص مسرحي يشبهنا، لذا قررنا أن نكتب أفكارنا الخاصة وأن نبتكر نمطا جديدا، لا أعرف إن نجحت بالوصول إليه؛ لكن السبب الذي دفعني للكتابة حقاً هو البحث خارج الصندوق وبعيداً عن الأنماط التقليدية والسائدة عن أسلوبي الخاص؛ وبعد أن انتهيت من مرحلة الكتابة على الورق ووصلنا إلى مرحلة البروفات على الخشبة، كنا نعيد صياغته من خلال الارتجال والكتابة على الخشبة، بمساعدة الدراماتورج حازم صالح والممثل مجد الحفيري، ومع إعطاء مساحة حرة للكريوغراف سجا النوري لصياغة الرقصات على الخشبة. وهذه العملية تطلبت وقتاً وجهداً كبيرين، ولكنني وجدت بأنها ضرورية لخلق هذا النمط الفني الخاص البعيد عن المسرح السوري السائد في المغترب، الذي يعتمد بمجمله على الحكايات البكائية، وتبدو بمعظم الأحيان وكأنها شحادة على السوريين".

فعلياً، من الممكن ملاحظة أن غالبية العروض السورية في الخارج في الفترة الأخيرة قد غلب عليها الطابع البكائي، ولعبت فيها المأساة دور البطولة. في المقابل، نجد أن مسرحية الحفيري تميل نحو دفة الكوميديا، رغم أنها ليست بعيدة عن الواقع السوري بالمطلق.
هنا، يقول الحفيري إن "تقديم الواقع السوري على خشبة المسرح لا يستلزم بالضرورة الطريقة البكائية السائدة. ليس لدي الرغبة بتقديم عرض مسرحي نبكي فيه على حالتنا، وإنما أرغب بعرض صورة عن الواقع السوري بتناقضاته، المضحكة والمبكية. يجب أن أشير هنا إلى أن نص المسرحية قد تم بناؤه على تجارب شخصية، لكل المشاركين في العمل، الذين أسهموا من خلال اقتراحاتهم بصياغة النص وتطويره".

العلاقة بين الكاتبين في المسرحية هي التي تتحكم بإيقاع الكوميديا، التي تبدو وكأنها تكافح للخروج من رحم البيئة المحكومة بالمأساة. فبين ما يفرضه الكاتب الرئيسي من الخارج على حياة شخصيته التي تعيش في المدينة الرمادية الشاحبة من إيقاع رتيب ومعاناة نفسية خانقة، وبين محاولات شخصية الكاتب التي تعيش الحكاية على الخشبة للتمرد على القدر وإعادة صياغة حياتها بالانعتاق من الصور النمطية للمدينة التي ينتمي إليها، والتي تصل إلى حد تبديل هويته والتنصل من كينونته، تنفتح مساحة من النقاشات الساخرة عن تلك الصور النمطية التي تحكمنا.

يقول الحفيري في هذا السياق: "لا يخفى على أحد أننا مررنا بتجارب صعبة حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، فأنا خلقت في سورية، وهذا قدر، وعشت بها 25 سنة قبل أن أصل إلى حيث أنا في برلين، وحياتي هنا أتاحت لي فرصة لملاحظة التناقض الفاقع ما بين نمطين من الحياة؛ ففي سورية كنا نجتهد ونتعب من دون نتيجة، وهو أمر يجعلنا نشعر بداخلنا بسوء الحظ أو القدر، فلماذا لم نولد بمدينة كبرلين؟ حاولنا هنا إعادة صياغة الرواية. ولكن مهما حاولت إعادة كتابة روايتي، فإن الرواية ستكون مشوهة ومشوشة، فمن غير المعقول أن نتجاوز حكاياتنا وواقعنا".

دلالات

المساهمون