ليس في ذمّ كورونا... أيضاً وأيضاً

ليس في ذمّ كورونا... أيضاً وأيضاً

12 اغسطس 2020
+ الخط -

ها هو الفيروسُ يعود؛ وها هي حربُنا تتكشّف أنها بالتأكيد لم تكن مجيدة، فقد مُنينا بخسائر فادحة، أكثر فداحةً مما ينبغي. لكن أفدح ما خسرنا في هذه الحرب، أو بالأصح في هذه الجولة الأولى منها، هي أوهامَنا عنها، وعنّا فيها، فقد خضناها بكثيرٍ من العنجهية والارتجالية ضد هذا الفيروس الضئيل الذي لا يُرى. حتى المتغطرسون من الحكام اضطروا أخيراً إلى الإذعان، ولكن بعد أن أنشبَ الفيروسُ في الناس الموت. 

بعد أن امتلأنا ثقة بأسلحة حربنا، يعودُ كورونا، كما تقول منظمة الصحة العالمية، كي يقيم بيننا طويلاً، وبعد أن تفلسف بخصوصه حكماؤنا، أو بالأصح من تبقّى بيننا منهم، في زمننا هذا الذي ماعاد أحد يرى في الفلسفة ضرورةً لحياته التي يجتاحها الافتراضيُّ وحقائقُه الخُلبيّة؛ وبعد أن قالوا كلّ ما يمكن لهم قوله، وكفّت الناس عن طلب حكمتهم. 

وحده الفيروس كان مستعداً. جاءنا، منذ الجولة الأولى، متوثباً، وأشهر في وجهنا تحدّيه الذي لم نستطع أن نبتلع الإهانة الصارخة فيه، لمكانتنا باعتبارنا بشرا يعتقدون أنهم أفضلَ الكائنات، وسادَتهم. وها هو اليوم يعود بكامل حيويته، بعد أن تملّكَنا وهمُ الانتصارِ عليه. جاء، كي يعمّق الإهانة ربما، بعد أن استقر في وعينا أننا أمسكنا بتلابيبه، وأنه غدا طيّعاً، وأن علماءَنا لَووا قبضته الممسكةَ بالموت؛ أتانا يدحض أوهامَنا بأننا انتصرنا عليه، وأن "كوده الجيني" صار في متناول يدنا، وغدونا قادرين على صناعة الجسم المضاد الذي سيُجهِزُ عليه، كما تظنّ مختبرات Moderna ، لأن الفيروسَ لا يفلُهُ غيرُ الفيروس.

بعد أن امتلأنا ثقة بأسلحة حربنا، يعودُ كورونا، كما تقول منظمة الصحة العالمية، كي يقيم بيننا طويلاً

ولكن كوفيد - 19 أثبت أنه فيروس مُراوغ كثيرُ التفلّت، فبعد أن استقر في يقيننا أن كمّاماتنا وتباعدنا وانحباسنا ألغت مفاعيله، وأن تعليمات حكوماتنا التي تستأنس برأي العلماء جعلت منه داجناً لا يقوى على اختراق دفاعاتنا؛ ها هو يعود ينصُبُ تحديَه المهينَ من غير تلعثم. بل إنه في بعض المناطق التي ظُنّ أنها تمكّنت منه، وأن لهيبه فيها خمد، مثل فلسطين وجوارها، صار أشد شراسة: عالي الموجة، صاخبَ الهدير، رفع الموت إلى العشرات، بعد كان محصورا بالآحاد، والمصابون نقلهم من المئات إلى الآلاف. الأمر نفسه في كثير من مجتمعات المعمورة.

.. لكورونا الفضلُ في إظهار نقيضين، وفي وضعهما تحت المجهر. من جهةٍ، أطلق حركةً واسعةً من التضامن، أو بالأصح من الطلب على التضامن و، بالضرورة، إدانة السلوك الأناني الذي يجافي كل أنسنة. والثاني أنه أطلق الوحشَ الكامنَ في داخل كل متحضّر، وحرّك بذلك نوازع عميقة من الأنانية المتوحشّة على غرار حرب الكمّامات التي لم يتردد الرئيس ترامب من إشعالها. لكن كورونا ليس التهديد بالموت، وليس الخوف من الموت، فقط. ذلك أنه، في حقيقته، الإنسانُ قبالةَ الموت، الحياةَ العاريةُ، بحسب تعبير الطلياني جيورجو أغامبين، إزاء الحياةِ الإجتماعية، الخلقية، وبالضرورة الحياة السياسية؛ في أُسّه، كورونا هو نفي البعدِ الاجتماعيِّ الذي يستوطننا ويُؤَنسِنُ الوحشَ الكامنَ فينا أبداً. إنه مرآتنا التي تعكسُ على صفحتها كلّ ما كنا لا نراه فينا. .. يلاحظ أغامبين بحق أن كورونا بيّن أننا، باسم الجائحة التي تعني أيضاً الخوف من الموت، مستعدّون أن نقبل بالتضحية بكل شيء: الروابط الاجتماعية، الصداقات الحميمة، حرية التنقل، وغيرها من الحريات التي تبدو كما لو كانت استقرت لدينا. 

لا بديل عن التفكير القويم، العقلاني، وعن ضرورة الأخلاق الإنسانية في التعامل مع البشر

هكذا غدا الفيروس، بحسب أغامبين، ذريعةً لتغييب الحريات، ولتوسيع حالة الطوارئ وتعميمها. ومن الجلي، كما يؤكّد، أن الخوف من خسران الحياة العارية لا يشجع الناس على التدامج، بل يذرذرُهم، ويعزلهم عن بعضهم، إذ يحثّهم على ألا يُعنوا سوى بخوفهم. صارت الناسُ تعيش في مجتمع تحوّل كل فردٍ فيه إلى ناقلٍ ممكن للفيروس، ومسبّبٍ ممكنٍ للموت. لقد أظهر الطليانُ استعداداً مطلقاً، كما يقول أغامبين، للتضحية بكل شيءٍ من أجل صون حياتهم العارية. هكذا أَلِفَ الناسُ العيشَ في مجتمع ضحّى بالحرية بدعوى الأمن، وغدا، لهذا السبب نفسه، مجتمعاً تسوده حالةٌ دائمةٌ من الخوف واللاأمن. لاغرابة، إذن، إن صار التخلي عن الحياة الاجتماعية، بعلاقاتها وحميميتها، مألوفاً باسم مواجهة فيروسٍ نراه عدواً، ولا غرابة إن تم استخدام مصطلح الحرب، وغيره من المصطلحات العسكرية، للتعبير عن إجراءات هذه المواجهة . 

.. هناك ظاهرة اتسع انتشارها مع اشتعال جائحة كورونا هي القول إن فيروس كوفيد 19 مُصنّع في أقبية توظفه سلاحاً استراتيجياً في حربٍ خفية لا سَبْر لها. هذا ما ذهب إليه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وكثير جداً من الناس العرب والروس وغيرهما. تمثلت الظاهرة في انتشار نظرية المؤامرة التي ترى في كورونا إما مؤامرة على البشرية ممّن يتحكّم بالبشرية، بغرض تعزيز قبضته التي كانت تتراخى، أو هو سلاح استخدمه بعضهم بغرض الكسب والسيطرة. وقد لا أجافي الصواب إن رجّحتُ أمرين: أولهما أن نصوص أغامبين بخصوص كورونا ساهمت بدعم نظرية المؤامرة وزرقتها، من غير ريب، بحجج تَعوزها، وثانيهما أن "الحرب" على كورونا عزّزت من التسلطيات، وأن المجتمعات التي عرفت حالة طوارئ ممتدة ليست بالضرورة مجتمعات حرّة. 

كورونا كشّاف أن الحضارة البشرية، بصيغتها الليبرالية، استنفدت طاقاتها كلها وما عادت قادرةً على أن تنتج، في التاريخ، سوى طاقتها التدميرية الذاتية

لسنا في حاجةٍ إلى الوباء كي نعرف أنه لا بديل عن التفكير القويم، العقلاني، وعن ضرورة الأخلاق الإنسانية في التعامل مع البشر، وعن الحكمة في التواضع إزاء الطبيعة، وفي التعرّف عليها وفي التعامل معها؛ وعن أن للناس الحق، كل الحق، في أن يوكلوا سلطات الدولة قضيةَ التعامل مع كورونا، وأن يطالبوها بالنجاح في هذا التعامل، وأن ينتقدوا أداءها في "الحرب" التي أعلنتها الحكومات على الفيروس، وأن يطالبوا بحقهم في الحرية. 

كورونا، في ظني، كشّاف أن الحضارة البشرية، بصيغتها الليبرالية، بلغت تمامها واستنفدت طاقاتها كلها وما عادت قادرةً على أن تنتج، في التاريخ، سوى طاقتها التدميرية الذاتية. ثم إن المفارقة الكبيرة التي تنطوي عليها إيديولوجيا الليبرالية الحديثة، وبالضرورة ممارساتها، تتمثل في أنها، باسم الحق في الحرية، تُجَرِّدُ الحقوق الإنسانية من ترسانتها الحقوقية التي توفّر لها شروط تجسّدها في التاريخ، وتضعها عرضة لكل انتهاك. 

.. ما كورونا غيرَ جائحة فاقم منها ذعرُنا الذي أشعلته. شقّت طريقها إلى العالم الذي شقَّتْه، وخطَّت فيه فاصلاً في تاريخه. كثيرون يؤكدون أن عالَمَنا لن يخرج من جائحة كورونا كما كان. وبحسب هنري كيسنجر الذي يرى إن كورونا سيغيّر النظام العالمي إلى الأبد، يتوجّبُ على الولايات المتحدة الأميركية "تضميد جراح الاقتصاد العالمي" و"حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي". ولكن ما تفعله الإدارة الأميركية بالفعل يخالف تماماً واجبها الذي حدّده السيد كيسنجر لها: إضعاف المنظومة الدولية، تفكيك الروابط الدولية، وتحبيذ الأفكار والسياسات العنصرية ومعاداة الأجانب واللاجئين، ودعم سياسات العدوان الإسرائيلي والاستيطان وغير ذلك .

ليس عمّا بعد كورونا، بل عمّا وضعته الجائحةُ أمام أعيننا، وما بيّنته لنا مما نسينا، و/أو تناسينا، بخصوص الاجتماع البشري، أو بحسب تعبير العجوز إدغار موران، بخصوص إنسانيتنا التي لم تتمكّن بعدُ من أن تتأَنْسَن.

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.