ليس رثاء لصادق جلال العظم

ليس رثاء لصادق جلال العظم

18 ديسمبر 2016
+ الخط -
لا أجيد الرثاء، ولا أعرف أن أحزن إلاّ بمفردي، فحزن الفقد أمر شخصي كما أفهمه، بل ذاتيّ متطرّف في ذاتيّته، المشاعر التي يتركها فرد رحل تولّدها الفجوة التي تزداد عمقاً واتساعاً مع الزمن، فجوة المكان الشاغر الذي كان مليئاً بالحياة مفتوحاً على احتمال المزيد عصياً على الاكتفاء، لكن صادق جلال العظم لم يكن إنساناً ذاتياً بالنسبة لي، فأنا بالكاد صافحته مرةً قبل أكثر من ثمانية أعوام مصادفة في دمشق. كنت مع صديقةٍ حزنت بفقدانها هذا الحزن الذي تكلمت عنه، الحزن الذاتي، إنها إلهام زوجة الراحل ممدوح عدوان. شعرت حينها بأنني ممنونةٌ لإلهام، ولمصادفةٍ من هذا القبيل، تجعلني أجالس قامةً مثل صادق جلال العظم أقل من الساعة. كان لطيفاً، لبقاً، متواضعاً، ودوداً، هادئاً، رصيناً، شامخاً على الرغم من تجاوزه السبعين، شامخاً مجازاً وواقعاً.
لكن جملة قرأتها في حوار كان قد أجراه معه زياد عدوان ومحمد أبو لبن في إبريل/ نيسان 2016 (منشور في ضفة ثالثة)، حرّضت غصة حزن في صدري، عند سؤاله، ما إذا كان سيعود إلى سورية، لو هدأت الأحوال. أجاب: لا أظن أنني سأعيش حتى تلك اللحظة، بسبب وضعي الصحي، لا أظن هذا ممكناً، ولكن إن حدث هذا فإني بالتأكيد سأعود.
حزنت، فمن أحبَّ وطنه مثلما أحبَّ صادق جلال العظم، وانتمى إليه بهذه الطريقة العضوية التي يلخصها ردّه إلى ضابط الأمن الذي كان يعطيه تأشيرة خروج لمرة واحدة كلما عزم على السفر، وهو ينبهه قائلاً إنها بطاقة ذهاب بلا عودة، إن عدت فستعود إلى حالة منع السفر نفسها، وستعود إلي: "إن بيت العظم هو الشام، سأعود". من أحب وطنه وكرّس حياته لخدمة الفكر الإنساني، وصاغ مواقفه، لتكون نصيرة لقضايا شعبه وقضايا الشعوب بعامة، لهو أمر محزنٌ وقاسٍ أن يصبح حلم العودة مستحيلاً له، وهو يتنبأ لموته، بل أن يموت بعيداً عن وطنٍ عايش محنته حتى الرمق الأخير، ولم يمهله الموت لومضة فرح، يمكن أن تلوح في أفقه الحالك.
الموت حقّ وحقيقة، هذا بديهي، لكن ما لا يموت هو الفكرة، فكيف بفكرٍ ترك قواعده ومبادئه
وأهدافه بين أيدي من هم بحاجة إليه، فيما لو اهتدوا؟ ليس بحاجة صادق جلال العظم لأن يكون أيقونةً، كما يحاول كثيرون تجسيده في مقالاتهم عنه، أو مداخلاتهم الصحفية والإعلامية، أو حتى في تغريداتهم ومشاركاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. هو ترك منارة للفكر، يمكن لكل تائهٍ في زمن التيه العربي أن يهتدي بها، بل من الإجحاف بحقه أن يصنع منه أيقونةً بقالبٍ صنع به عدداً لا ينتهي من الأيقونات، باعتبارها مع "الثورة السورية"، فقط لأنهم صرخوا ليسقط النظام، ولم يقدّموا بعدها حرفاً يخدم الثورة وأهدافها. ومن الإجحاف أكثر بحقه أن عدداً من هذه الأيقونات، المصنعة في زمن الثورة المغدورة التي هبّت في وجه الطغيان والاستبداد، كانوا قد راكموا ماضياً شخصياً من العمل مع نظام الاستبداد الذي يطالبون بإسقاطه، ومنهم من كانوا قطعاً متباينة الأهمية في آلية فساده وبطشه، ثم ركبوا موجة الثورة، وصنعت منهم أيقوناتٍ ثورية، فهل من العدل واللائق أن يوضعوا مع من راكم منتجاً ثقافياً إنسانياً، دفع عمره من أجله، ومن أجل قضايا الشعوب والقضايا الإنسانية، مثل صادق جلال العظم، ثم مات بعيداً عن الشام التي هي بيت العظم؟
أليس من الأجدر، ومن اللائق أكثر، بذكرى قامة وطنية وفكرية من هذا المستوى، العمل على تكريس فكره، واستمرار الحوار معه، حتى بعد وفاته؟ الحوار مع مقالاته وكتبه، وهو الذي كان هادئاً في ردوده، مرحّباً بمنتقديه ونقدهم له، بل كان، منذ بداياته، متمسكًا بالنقد الذاتي، وكانت الأسئلة النقدية شاغله في كتابه "النقد والنقد الذاتي بعد الهزيمة" في 1967، عندما وجهها إلى النخب المثقفة من القوميين العرب، والناصريين، ويساريي تلك الفترة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين. "إن كنتم تعتبرون أنفسكم ثائرين، فعلى ماذا أنتم ثائرون؟ على الاستعمار فقط؟" ألا يمكن استمرار هذا النهج، وتوجيه السؤال إلى نخب اليوم الثورية: على ماذا ثرتم؟ على إسقاط النظام السياسي فقط؟ والطغيان الذي صادر الثورة، وصادر المجال العام بأجمعه؟ وخطابات الفصائل والأطراف التي تهيمن، وتدّعي تحرير بعض المناطق؟ أين هو النقد الذاتي في زمن الثورة؟ ألم تراودكم هواجس كهواجسه، وهو يصرح: تخوفي أيضاً أنه بعد الثورة ستعيد الثقافة السلطوية إنتاج نفسها. أرجو، في ذلك الوقت، أن يكون النموذج أخفّ مما شهدناه ونشهده حالياً أن يكون مُسيطَراً عليه قليلاً.
تستحق الشخصيات التي أنتجت فكراً إنسانياً أكثر من الرثاء، وأكثر من تعداد عناوين منتجها الثقافي. تستحق تفعيل فكرها التنويري، ومحاكاة مواقفها النقدية، بل التمسك بشجاعتها في مواجهة كل أشكال التسلط والاستبداد، وليس مواجهتها مجتَزأة، وهو الذي بقي حتى أيامه الأخيرة يقول: داعش وضع الفكر الإسلامي، سنياً كان أم شيعياً، أمام امتحان حقيقي، بمعنى النصوص التي يستند إليها "داعش"، هي نصوص القرآن. مثلاً اسأل شيخ الأزهر عن العبودية: حلال أم حرام؟ لن يستطيع تحريمها، سيلف ويدور. موضوع السبي، "داعش" يسبي، اسأل أيضاً عن هذا الموضوع، إن كان حلالاً أم حراماً ما حكمه الآن؟ سيلف ويدور أيضاً. انظر إلى المناهج التي تدرّس في كلية الشريعة أو في الأزهر، ستجد مستنداً نظرياً لما يقوم به "داعش" الآن، ولما قامت به طالبان سابقاً عندما هدمت تماثيل بوذا على اعتبار أنها أصنام.
كان همّه الأكبر وقضيته الوحيدة هم الشعب المنكوب ونصرة قضيته، ويستقرئ المستقبل
الممكن من خلال رؤيته الموضوعية للحراك السوري، والتطورات الميدانية والسياسية، فقد عبر عن تصوره للمرحلة المقبلة: إحساسي أن الدول الكبرى تفضّل أن تتعامل مع شيءٍ اسمه سورية، بوضعه الجغرافي الحالي، على أن تتعامل مع كانتونات متفرّقة. أتوقع أننا سنشهد في سورية عملية إعادة بناء، شبيهةٍ بما حصل في لبنان، سيخرج رفيق الحريري واثنان وثلاثة في سورية، سيكون مزيجاً من رأس المال الخليجي ورأس المال المحلي، إن كان رأس مال جديداً أو رأس مال البرجوازية القديمة السورية. أظن أن المرحلة المقبلة هي مرحلة ستلعب فيها البرجوزاية هذا الدور.
يمكن للموت أن يدفعنا إلى مزيد من التأمل في إرث المتوفى، فكيف إذا كان الراحل لديه هذا الكم الكبير من الإرث الإنساني، أليس إكرامه بإحياء إرثه ومتابعة السجال معه، والإفادة منه فيما يساهم في النهوض بالوعي العام؟ ترك تجارب مهمة في النقد يمكن الاستلهام منها، بغض النظر عن اختلاف بعضهم معه في موقفه من الثورة التي انساق خلفها عاطفياً، وتغاضى، إلى حد ما، عن احتكارها لصالح القوى السياسية والعسكرية الإسلامية. ما يحزنني في رحيله أمر واحد، عدا عن تعاطفي مع عائلته، أنه برحيله سوف يتوقف تدفق نبعه الفكري، فمثله كان دائماً لديه ما يقول، لأنه لم يكف يوماً عن متابعة الأحداث، ومتابعة القراءات في مجالات الثقافة والعلوم والإبداع الإنساني، وكان ضد الجمود. مقالاته وأطروحاته تعمل على تحريك المياه الآسنة من خلال الخوض في محرّمات أساسية في حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية، وفي مقدمتها المحرّمات الدينية والسياسية. ازداد حوض المحرّمات اتساعاً وعمقاً في حياة السوريين، بعد ست سنوات من الزلازل، وازداد حجم الاستنقاع، ربما لو أمهله الموت لكان أمام تعاظم هول الكارثة السورية قد عاد ثانية إلى حسّه النقدي، وأشار بإصبعه إلى أماكن الخلل التي تدفع بالتجارب إلى الانهيار.