ليبيا وقانون الطوارئ

ليبيا وقانون الطوارئ

13 ديسمبر 2019
+ الخط -

كانت بلادي ليبيا تبدو للعالم، رغم ثرواتها، مغلقة ومعزولة تماماً، مثلما هو الحال عند ألبانيا "المعدمة"، لأوروبا والعالم، وخاصة محيطها. كانت دولة لا "تعلم يسراها ما أنفقت يمناها"، ليس حرصاً على إخفاء الصدقات والتي لا يضر أبداً إبداؤها، وإن فضل الإخفاء، بل لأن شخصاً واحداً يدير جميع خيوط اللعبة، ويتحكم في كل شيء، وكان قد اكتسب الشرعية "الثورية"، وكل العالم يعترف به. لكنه كان يأخذ من هذا ويعطي ذاك ويخفي هذا ويقتل ذاك في بلد تُفصَّل فيه الأحكام بمقاسات الحاكم دون أن تراها موثقة إلا ما ندر، ولغاية في نفس يعقوب.

اتَّصل بي صديق قديمٌ مقيم في أوروبا سائلاً عن أحوالي، وأخذنا الحديث إلى وضع البلد الحالي وهو متابع جيد رغم بعده. تحدَّثنا عن كارثة إعلان النفير، وهو "حالة طوارئ"، وأصلاً لا يوجد بلد، حتى تُعلن الطوارئ. قال لي إن الأنكى هو ما قاله المسماري الناطق باسم حفتر في مؤتمر عقد قبل فترة.

سألته عن الإذاعة التي ظهر بها وإن كان بإمكانه إرسال رابطٍ لي، أخبرني أنها إذاعة "ليبيا الحدث"، ولم أجد كبير عناء في البحث والحصول على الفيديو، ومدته أكثر من واحدة وأربعين دقيقة، وحقيقة لا أملك ساعة إلا ربعاً لأضيّعها على مثل تفاهات كهذه، وما همني فيها إلا موضوع بعينه ذكره لي.

استمعت للبداية، وكان الفيديو مترجماً للإنكليزية، استهله بتكليف "القائد العام له، بتبليغ الشعب الليبي تحياته وسلامه وأنه، (القائد المشير)، قد أمر بزيادات مالية للعسكريين بين 25% إلى 50%، واعتبار "قتلاهم" شهداء، ولاحظوا "اعتبارهم شهداء من حفتر" الذي يعطي صكوك الغفران أو الخيانة، ويمنح لأسرهم مستحقاتهم لـ"يستفيد منها الموتى"، منها مدى الحياة.

لم أستطع الاستماع، فجررت الشريط للأمام بحثاً عن فقرة خطيرةٍ أخبرني عنها صديقي، وجدتها تقريباً عند الدقيقة السادسة، ومدتها دقيقتان. وهي كما قال الخبر الثاني الذي أفادتهم به "المحكمة العسكرية"، المتعلق بالقضايا التي تم الفصل فيها في شهر أكتوبر لوحده عام 2019 وهي قضايا عرفها على أنها قضايا إرهاب وزندقة. وهو أمر قديم كانت لا تقام له محاكم، بل يتكفل بالقتل الفوري في الشوارع المجرم محمود الورفلي، المكلف بذاك من حفتر.

الجديد هو التعريف الثالث "قضايا تمس الأمن والسلم الوطني" وهذا اصطلاح مستحدث، استعمل لأول مرة، إضافة إلى "المحاكم العسكرية"، وقد أعطى رقماً وهو تسعة أشخاص "إعدام" في قضايا إرهاب، و43 أحكام بالسجن ما بين المؤبد إلى ثلاث أو أربع سنين "ولا تفرق السنة عندهم" كما ذكر، وحصول ثلاثة على البراءة، دون ذكر أسماء.

أوضح لاحقاً آلية العمل للحصول على هذه الأحكام، التي من كلامه يبدو أنها ستكون شهرية، على أن تبدأ من التحقيق في مقرات الشرطة العسكرية وتحال القضايا للمحكمة الدائمة والطعون تتم أمام المحكمة العسكرية العليا، وطالما أنها ستكون "عادة شهرية"، فإن إجراءاتها بالكامل من القبض على الشخص إلى قبض الروح لا تتعدى أسابيع أربعة.

إلى هنا وتوقفت، لأن هذا جزء يسير من حقيقة وحيدة في ظل كم كبير من الأحاديث الكاذبة عن انتصارات وهمية ومُزيّفة، وأتطرَّق بالتالي إلى نقاش هذ الموضوع.

 

أولاً، حفتر عملياً هو الحاكم والمتصرف في شؤون "المنطقة الشرقية وأجزاء من الجنوب"، لكن فعليا هو قائد عام في ظل ازدواجية وجود رئيس أركان، لا يملك أن يشكل محاكم، ولا أن يحيل إليها، بل لا يملك قرار زيادة عسكري واحد ربع مليم في ظل وجود "برلمان" و"رئيس وحكومة" و"محاكم مدنية"، حتى لو سلمنا بأنها "كرتونية" لا تفعل شيئاً. حفتر أساساً أسير حرب واتفاقات جنيف "حمت" أسرى الحرب من الاستخدام مرة أخرى كعسكريين لأنهم غالباً عانوا من تجارب مريرة، فما بالك بأن يولوا قيادة "جيش"، إن جاز تسميته جيشاً.

ثانياً، لم تتم تسمية أحد من المحكومين، وهو مؤشر خطير جداً، فلربما هناك من تمت تصفيتهم وسيضعونهم في قوائم المحكومين، وكذلك يعد ذلك عصا غليظة جداً يستعملها حفتر ليرهب الناس بعد أن اختطفهم حتى لو سلمنا أن ذلك كان بـ"مزاجهم". كذلك باقي المحكومين، لم ترد قائمة أسمائهم حتى يستأنفوا، وفقاً للقوانين "القراقوشية" التي تمليها عليه المخابرات المصرية السيساوية، وتحديداً الفرع الخاص بليبيا.

ثالثًا، أساساً كلمات الإرهاب المطاطة والتي هي لعلم الناطق الأخرس لا علاقة لها بالزندقة، صفة ابتدعها الخليفة العباسي السابع المأمون للتنكيل بمعارضيه وأبدع في التنكيل القذافي بعد أن أطلقها على كل مخالف له، لكن القذافي كان يسمي خصومه. الأمر الأكثر فظاعة هو: "المتهمين في قضايا تمس الأمن والسلم الوطني"، وهذه تفتح الباب مشرعاً أمام إلصاقها بأي فرد في المجتمع، مدنيّاً كان أم عسكريّاً، وهي مثلاً قد تطاولني شخصياً أو مجموعة من المعارضين لحفتر من سكان شرق ليبيا، لكن للغرب حكومته ومحاكمه التي لا تخضع ولن تخضع بإذن الله لحفتر أو المسماري.

أرى أنَّ ما ذكرته بخصوص المحاكم التي لا يحتاج إليها حفتر من الأساس هو أمر خطير جداً، وجب الوقوف عنده وتحمل المسؤولين لمسؤولياتهم التاريخية، وإبلاغ العالم بهذه التجاوزات المريعة رغم أنهم يعلمون ومتواطئون!

 
8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.