لو ثمة حاضنة عربية للمقاومة الفلسطينية؟
مقاومون من كتائب القسام في رفح (مايو/2014/أ.ف.ب)
إنجازات المقاومة الفلسطينية في تصديها للعدوان الصهيوني على قطاع غزة لا تنكر. فهي وعلى الرغم من قلة الإمكانات، والحصار الخانق المفروض عليها، من إسرائيل وأنظمة عربية، لا زالت تقف صامدة بشموخ. تلقن، ببسالة، جيش الاحتلال الإسرائيلي دروساً كثيرة، وتوقف تقدم قواته البرية في القطاع المنكوب، على الرغم من الاختلال الصارخ في ميزان القوى والتسليح.
أبانت وقائع العدوان الصهيوني الحالي، بوضوح، أن المقاومة الفلسطينية لم تعد في موقع تلقي الصفعات من دون رد بعضها، بل وكثير منها، وأبانت أيضاً عن إبداعات العقل الفلسطيني المقاوم، المتناغمة مع شدة شكيمته. فمن الصواريخ بعيدة المدى، والقذائف والقنابل شديدة التفجير، والطائرات من دون طيار، وأغلبها مصنع محلياً، إلى إبداع مهاجمة العدو في عقر قواعده العسكرية عبر البحر، والإنزال خلف خطوطه عبر الأنفاق، .. إلخ. وهي صفعات تتلقاها إسرائيل من المقاومة يومياً، ولا تجد ما ترد به إلا عبر سلاح الجبان، المتمثل باستهداف المدنيين بالمدفعية والصواريخ الجوية والبحرية، لرفع الكلفة البشرية والعمرانية والاقتصادية فلسطينياً، بعد أن أعيتها المقاومة المستبسلة.
هذا حدود ما تملكه المقاومة، إمكانات ذاتية محدودة، وفوق ذاك، عزيمة صلبة واستعداد للتضحية، لكن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا: كيف كان سيكون الحال، لو كان للمقاومة حاضنة وعمق عربي؟
إذا كانت المقاومة الفلسطينية قادرة على تسطير كل هذه الإنجازات وهي محاصرة، منبوذة، ومعاداة، من جلِّ الأنظمة العربية، وخصوصاً نظام الانقلاب في مصر، المحاذية للقطاع، والممسك نظامها بخناقه وخناق أهلها، فكيف سيكون الحال لو تبنوها ودعموها، أو وفّروا لها عمقاً وظهيراً سياسياً، أو قل، على الأقل، لو أنهم تركوها تتدبر أمرها، من دون عداء وحصار واستهداف لها منهم!؟
سيختلف الحال كثيراً، ولا شك أن إسرائيل ما كانت لتكون، اليوم، بمثل هذا الصلف والجبروت والوحشية، بل، ولا شك أن إسرائيل ما كان في وسعها أن تحافظ على احتلال شبه "مجاني" لأراضٍ فلسطينية محتلة عام 1967، على الأقل.
المعطيات على الأرض اليوم مختلفة عمّا كانت عليه في الحروب العربية-الإسرائيلية السابقة. إسرائيل عاجزة عن حسم معركة مع قوى المقاومة الشعبية المسلحة، غير النظامية الرسمية. نعم هي، أي إسرائيل، قوة تدميرية هائلة ومتوحشة، لكنها قوة مجهضة ذاتياً أمام مقاومات تملك إيماناً وعزيمة وإصراراً، وتقاتل من منطلق وطني حر، لا عسكري نظامي، مفروض عليها. إنها تقاتل من أجل وطن وشعب وحق، لا من أجل نظام وفرد وكرسي.
رأينا ذلك في السنوات الأخيرة، في العدوان على لبنان عام 2006، ثم في العدوان على قطاع غزة 2008-2009، وتالياً في 2012، واليوم في العدوان الجاري حالياً على القطاع. بل إن مقاومة غزة أكثر تعبيراً عن حقيقة الضعف الصهيوني أمام المقاومة الشعبية المسلحة. فمقاومة حزب الله اللبناني إسرائيل، والذي ضلت بندقيته وجهتها اليوم، تتمتع بحاضنةٍ محلية وعربية وإقليمية. فلحزب الله عمق جغرافي، في بلد مستقل اسمه لبنان، ومسرح مقاومته في الجنوب، جبليٌّ وعر، وكانت سورية، ولا زالت، معبر وصول الأسلحة الإيرانية المتقدمة إليه. هذا ليس تقليلاً من مقاومته في الأمس، لكنها من باب المقارنة مع مقاومة غزة اليوم.
في قطاع غزة، يغيب العمق المحلي، فهو صغير المساحة، مكتظ سكانياً، سهليٌّ، مسطح التضاريس، وفوق هذا وذاك محاصَر من إسرائيل براً وبحراً وجواً، ومن النظام المصري، كذلك، براً وبحراً وجواً. إنه بدون حاضنة عربية قريبة، أو إقليمية مباشرة، قادرة على دعمه دعماً كاملاً. الأدهى أن من يحاربه، بالاشتراك مع إسرائيل، في غذائه ومائه ودوائه، دع عنك سلاح مقاومته، هو نظام عربي متسلط في "المسلوبة" مصر، وعلى الرغم من ذلك كله، لا زالت مقاومته شامخة، تسطر البطولات.
من المخزي، أن تجد أن نظام الانقلاب في مصر يسعى، اليوم، إلى فرض الاستسلام على مقاومة غزة بمبادرته للتهدئة! إسرائيل تكابد الآن في محاولةٍ للخروج بماء الوجه من هذه المعركة التي ورطت نفسها فيها، والنظام المصري يمد يد عون غادرة لها. مبادرة النظام
المصري ساوت بين المجرم والضحية، ووسمت مقاومة الدفاع عن النفس بـ"الأعمال العدائية"، وهي الصفة نفسها التي أطلقتها على العدوان الوحشي الإسرائيلي، وهي تهدف إلى فرض معادلة "الهدوء مقابل الهدوء". بمعنى أنه لا لرفع للحصار عن قطاع غزة، ولا لفتح معابره، ولا للإفراج عمّن أعيد اعتقالهم من الفلسطينيين، في الأسابيع الأخيرة، ولا لمحاسبة المعتدي على جرائمه، ولا لتعويض ضحايا العدوان الجاري والاقتصاص لهم.. إلخ. مصر-السيسي، ترى أن هذه كلها نتائج تنبني على ترتيباتٍ واتفاقات أمنية، تتضمن نزع سلاح المقاومة الفلسطينية!
ومن المفارقات، في هذا السياق، أن تعرف أن بعض مساعدي وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، والذي يقوم بجهود في المنطقة، الآن، للتوصل إلى هدنة، يقولون إن مساعي كيري تواجه تحدياً قادماً من محور مصر، وبعض داعميها العرب، والذي لا يريد أي مبادرة تتضمن "إنقاذاً لحماس من ورطتها"، ومن ثمَّ يصرون على قبول حماس، والمقاومة، بمبادرة مصر، كما هي، على الرغم من أن الحركة لم تستشار فيها، وهي أقرب إلى شروط الاستسلام، منها إلى اتفاق ثنائي، أو استمرار الحرب إلى حين سحقهم، أو على الأقل كسر شوكتهم!
إنها مفارقة فعلاً، الولايات المتحدة، المنحازة تاريخياً، وحالياً، وأبدياً، لإسرائيل، تريد تعديل المبادرة المصرية، لكي تقبل بها حماس والمقاومة الفلسطينية، والمحور العربي المعادي لتطلعات الشعوب العربية وحريتها يرفض ذلك.
طبعاً، محاولات كيري لا تعبر عن صحوة ضمير أميركية، لكنها انعكاس لورطة إسرائيل وإنجازات المقاومة على الأرض، وهي، في كل الأحوال، محاولات مسمومة وغير منصفة للفلسطينيين. ولكن، العبرة هنا، في موقف عربي، ينبغي، أو هكذا يفترض، عقلاً ومنطقاً، أن يكون في صف المقاومة الفلسطينية، وتعزيز الوضع العربي إقليمياً ودولياً.
للأسف، الوضع العربي منهار أكثر مما كنا نتوقعه، وواقع بؤسنا جلُّه من صنع أيدينا، ولن يغيره إلا نحن، ولكن ذلك لن يتم قبل أن نستلهم روح الفداء والعزيمة والإصرار التي تسري في غزة اليوم.