لم يكن موتاً حقيقياً

لم يكن موتاً حقيقياً

17 اغسطس 2020
تيريزا رايت ومارلون براندو في فيلم "الرجال" لـ فرِد زينمان (Getty)
+ الخط -

تنقضي الحرب، يغادرُ الجنود ثكناتهم ويعودون إلى بيوتهم، يغادر الرفاقُ الخنادق والتحصينات عائدين إلى أطفالهم. ولربما تُنسى سنوات الحرب، ما لم تترك لدى المُتَحاربين بتراً يرافق أجسادهم، ويذكّرهم بخذلان الأقدار لهم.

رغم تشابه قصص المقاتلين، تشابهاً يجيءُ من طبيعة الحرب الواحدة، إلّا أنّه يصعب القول بأنّ الحربَ التي عرفها أحدهم، هي ذاتها التي عرفها أحدٌ آخر، حتى لو خاضا المعركة نفسها، إذ تَحمِلُ تجربةُ الحرب مساحاتٍ خاصّة تُميّز تجربةً عن الأخرى باستمرار، وعلى اختلاف مراحل التجربة؛ بدءاً من سعي أحدهم إلى القتال بدافعٍ فكري أو عقائدي، أو اكتشاف آخرين أنّهم وسط معاركَ لا يريدونها. قد يَقتل أحدهم بشراً آخرين، وقد يُقتَلون أمامه. ولا يعبر الإنسان تجربة أن يكون قاتلاً، العبور ذاتهُ الذي يعبره من كان شاهداً، سواءٌ شهد مقتل رفاقهِ أمامه، أو مقتل خصومه، ولو ليس على يديه. 

يبحثُ الفن عن ارتدادات ضروب الحرب داخل المجتمعات المحليّة للبلدان المشتعلة، التي يعاني شبابها من ظروف الحرب المباشرة. ومن ثمّ يصدّر خلاصاتهِ إلى مجتمع الأغراب الآمنين. فالفن ينادي عبر محاكاة مصائر تآكلها الموت؛ بفكرة أنّ الموت لا يزالُ يهزّنا، وسيبقى يَهزُّنا في أعماقنا، نحن الآمنين، الذين لم نمت موتاً حقيقياً في المعارك. 

ينادي الفن بفكرة أنّ الموت لا يزالُ يهزّنا وسيبقى

كثيراً ما يَظهرُ الموت في الفنون موتاً بطوليّاً. إذ ثمةَ رأي يجدُ الموتَ أشهى من شبهة الحياة، التي تتعقَّبُ شباباً شهدوا فصلاً صاخباً وعنيفاً من حيواتهم. في فيلم "الرجال" (The Men) للمخرج فرِد زينمان (1950)، يلعب مارلون براندو أوّل أدواره في فيلم يروي حكايةً مُعبّرة عن العائدين من الحرب، عن أولئك الذين نجوا من الموت، لكنهم لم ينجوا من الحياة. حيثُ يرى الجنود، الذين أصيبوا بالشلل، تلاشي مصائرهم وتلاشي حُبّهم لأوطانهم، إلى جانب عدم تآلفهم مع المجتمع مرّةً ثانية. ويصبح للجنود المعطوبين مجتمعهم المغلق، وقد تحوّلوا، على الرغم من بطولاتهم، إلى منبوذين.

كذلك في الفيلم الياباني "الشرط الإنساني" (The Human Condition)، وهو عمل بثلاثة أجزاء ويمتدّ لقرابة عشر ساعات، أنجزه المخرج الياباني ماساكي كوباياشي (1959) عن رواية تحملُ العنوان نفسهُ للروائي الياباني جونبي جوميكاوا (1916 - 1995)، وتروي الثلاثية في الجزأين الثاني والثالث حكاية الملازم كوجي، الذي يتواجد في أمكنة ترفضُ معتقداتهِ، وكان كوجي في الجزء الأول يؤجّل زواجه من أجل الخدمة الإلزامية، ومن ثمّ يَقبَلُ عرضاً للعمل في منطقة نائية، على أن يُعفى من الخدمة الإلزامية. لكن يبقى إعفاؤهُ ورقة ضغط تُستخدَم ضدّه عندما يقف إلى جانب العمّال من أجل تحسين ظروفهم، ليجدَ نفسهُ يخوض حرباً يرفضها بالمبدأ، وهي هنا الحرب العالمية الثانية، وقد بقي يَجِدُّ من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من التعاطف والرأفة، الذي ينجح في إشاعته بين رفاقهِ، والفيلم مثال أخّاذ على ثقافة التعاطف وسط الكراهية. 

بين نماذج اندفعت إلى القتال، وبانتهاء دورها نُبِذَت جرّاء خساراتها الشخصية، وبين نموذج دُفِعَ إلى القتال، ووجد نفسهُ - وسط المعارك - يكافح كي تُقبَل مبادئهُ في التدريب ولاحقاً في المعارك. وجدت النماذج الأولى نفسها مضطرّة إلى الكفاح في الحياة المرفّهة، فيما وجد النموذج الثاني نفسهُ مضطراً إلى الكفاح وسط العيش القاسي. 

عندئذٍ ننتبه إلى مفردة تنشأ مع ظروف الحرب، وهي أشبه بأمثولة يعزّز الفن حضورها، كما لو أنّ الفنّان يريدُ تحويلها إلى ثقافةٍ في وجه الانهيارات. مفردة تضيفُ المعنى إلى الوقت العصيب للإنسان، وهي ضرورة أن يكافح. لكن إلى جانب هذا الرأي يوجدُ بشرٌ باتوا يأنفون من المعنى، وتدعوهم مفردة "الكفاح" إلى السأم وتذكّرهم باللاجدوى.


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون