لم لا تنقش حيوانات أخرى؟

لم لا تنقش حيوانات أخرى؟

12 أكتوبر 2015
لوحة للفنان الإسباني ماريانو بيرتوشي، مهرجان في الشارع (Getty)
+ الخط -
يجلس خارج المستشفى المخصص للأفارقة فقط، صانعاً أشكالاً من الخشب. تلك التي انتهى من إنجازها موضوعة على الأرض فوق جرائد قديمة تحيط به. إلى يمينه يجلس رسّام، واللوحات التي انتهى منها، تتكئ على سور المستشفى الذي وراءه. هما في هذه القرية العظيمة الشديدة الاكتظاظ، حيث السيارات تزعق، وجموع الناس تتدفق، أصوات تعلو، وسيارات إسعاف تهرع إلى قسم الطوارئ في المستشفى، أما ضوؤها البرتقالي فيومض منذراً بلطف زحمة السير المقبلة بدنوها. عبر الفيلة التي ينقشها، وكذلك الزرافات التي لها أعناق معوجّة بصورة شاذة، يستقدم النحات الأدغال إلى المدينة. حيواناته تمشي على أوراق الصحف المطبوعة، لكنه ينوح إذ لا حياة تدب في أطرافها. في بعض الأحيان، وفي غمرة غضبه، يجمع الحيوانات ويلقي بها في حركة مسعورة داخل صندوق الكرتون، عازماً ألا يرى أشكالها التي لا حياة فيها مقابل الحركة الفوضوية للسيارات المتدفقة من الزحام المروري عبر بوابات المستشفى.
اقرأ أيضًا: المدون الشاب
"هل ترغب في التمساح؟ إنه تمساح صالح. ألا تريده؟"، تتحايل أم على طفلها الصغير الذي راح يجهش بالبكاء بعد زيارة المستشفى، وقد لُفَّتْ ضمادة بيضاء بإحكام حول ذراعه. الطفل يمسك ذراعه بيده الأخرى، منتبهاً إلى اهتمام أمه، الأمر الذي يجعله مدركاً بدوره "عاهته" المؤقتة. الأم تجثو على ركبتيها بجانبه وتنظر مباشرة إلى عينيه، متوسلة.
"لقد أخذ حقنة للتو. أنت تعلم كم يخاف الأطفال الإبر"، تُعلِم الأم الرجل. تبتاع التمساح، وتقدّمه للطفل. الرجل يشاهد واحداً من حيواناته يذهب بعيداً منه، محمولاً الآن بين أصابع الطفل الصغيرة. ليس من حياة تدب في حيواناته، والرجل ميال دوماً لوضعها في الصندوق. يتساءل إذا ما كان الطفل سيشاهد يوماً تمساحاً يتحرك، إن بقي محاطاً كما حاله الآن بهذه المدينة القاحلة، حيث لا أنهر غير الطرقات المقيَّرة.
شخص بمعطف أبيض ينظر إلى الفيلة، إلى الرجل الذي ينقشها كذلك. ينتقي فيلاً أحمر، نقش نابيه على طرفي جسمه، بحيث لا يمكنه رفعهما. فيل أحمر؟ الرجل الغريب مندهش، ويشعر بالمتعة، ويقرر ابتياع الفيل، رغم أنه منقوش بطريقة سيئة وليس بإمكانه رفع نابه. سيضعه قرب شباك مكتبه، بحيث يستطيع النظر إلى المرضى الواقفين في الطابور. لماذا لا يوجد عينان منقوشتان على وجه الفيل؟ اللون، ربما غطاهما.
النحات يطلق اللعنات فجأة.
"ما الخطب؟"، يسأله الرسام.
"انظر إلى عنق الزرافة".
الرسام ينظر إلى الزرافة، وينفجر الرجلان بضحك مرتبك. ليس من السهل أن يضحك المرء عندما يكون جالساً على مقربة من أشخاص مرضى. النحات يتساءل ما إذا كان عليه أن ينقش صورة لنفسه، أو لشخص ما بائس توقّف ليلقي نظرة إلى حيواناته التي لا تتنفس. ينظر إلى صندوق الكرتون بجانبه، ويقرر وضعه في الفيء، بعيداً عن الأنظار.
"لم لا تنقش حيوانات أخرى، كالشيمبانزي والأسود؟" يسأله الرسام. "أنت دائماً تنقش زرافات، وهو ذا تمساحك الوحيد قد بيع للتو". للرسام لمسة في أعمال النحات، فهو يعيره الألوان ليلوّن بها الحيوانات. الفيل الأحمر كان فكرته.
اقرأ أيضًا: ربيع كاتماندو الأزرق
"الفيل حكم الأدغال لفترة طويلة من الزمن، إنه أقدم عمراً من الغابة، لكن ذَكَر الزرافة يمطّ عنقه ويتبختر أعلى من الأشجار، كما لو أن الغابة ملكٌ له. يلتهم الأوراق التي في قمم الأشجار، فيما يقضي الفيل يومه يُقَلّب في الوحل. ألا تجد ذلك مثيراً للاهتمام؟ ذلك الصراع القائم بين الفيل وذكر الزرافة من أجل تناول أعلى الأوراق في الشجرة؟". تئز سيارات الإسعاف بصوتها عابرة إلى قسم الطوارئ في المستشفى المخصص للأفارقة فقط.
الرسام يستغرق في التفكير للحظة، بينما يضع اللمسات الأخيرة على صورة لشلالات فيكتوريا رسمها بحسب ما يتذكر من الصحف والمجلات. لم ير قط بأم عينه الشلالات. لكن المياه لا بد وأن تكون زرقاء، فذلك سيضفي على اللوحة مسحة عاطفية، يفكر. لقد قيل له مرة إنه حين نرسم المياه في الخرائط، فإننا نلونها بالأزرق. وبالأخص عندما يكون هناك الكثير من الماء، كما هو حال البحر، فإن المياه تبدو كسماء. وعلى هذا الأساس، عليه أن يكون سخياً في تصويره، فالأمواج الزرقاء المذهلة تندفع بغزارة وبصورة لاطبيعية وسط الجرف الصخري.
"ذَكَر الزرافة يسير بكبرياء، بمهابة، وذلك سببه النسيج الباهر الذي يحمله فوق ظهره. ذلك ما هو الصراع عليه. عدا ذلك فإن الفيل وذكر الزرافة متساويان. الفيل يتحلى بناب طويلة تمكّنه من بلوغ الأوراق وذكر الزرافة يستعين بعنقه الممشوقة".
الرسام يقحم حبيبَين في زاوية اللوحة، ذراع الواحد منهما تحيط بالآخر فيما يحدّقان بالحب الذي يكنانه لبعضهما في المياه الزرقاء. يريد جعل المياه تغني لهما. فيرسم طائراً في أعلى اللوحة، مرفرفاً فوق الشلال، ومنقاره مفتوح على غناء ما. يتمنّى لو أنه رسم حمامة، بدلاً من هذا الطائر الأسود الذي يبدو كما لو أنه غراب.
النحات يستعير بعضاً من الألوان ويضع بقعاً صفراء وسوداء على زرافة قصيرة العنق. لقد اقتنع منذ مدة طويلة بحقيقة أنه غير قادر على نحت حيوانات تامة في أشكالها، لكنه لن يلقي بها في القمامة. قد يكون أحدهم خارجاً من المستشفى المخصص للأفارقة فقط، فيجد شيئاً مبهجاً في واحدة من هذه القطع المنحوتة. لكنه ما إن ينتهي من وضع النقاط، حتى تسيل الألوان على طرفي الحيوان، الذي يبدو الآن وبسبب ذلك كما لو أنه حمار وحشي.
"لم لم تنقش يوماً قطة أو كلباً؟ شيئاً شاهده الناس في أحد الأيام في المدينة. حتى الجرذ قد يبدو فكرة ممكنة، هناك الكثير من الجرذان في هذه البلدة العظيمة". يتعالى ضحك كثير بعد ذلك. يدرك الرسام أن الكثير من الرذاذ سيصل بلا شك إلى الحبيبَين، فيرسم فوق رأسيهما مظلة. لكنه يلاحظ فجأة أن ثمة ما هو مفقود في اللوحة، فيمدّ أيدي الحبيبين الطليقة، واضعاً فيها بعض الآيس كريم. اللوحة الآن تعج بالحياة.
"ما الغاية من نقش كلب؟ لم لا ترسم أنت كلاباً وقططاً وفئراناً؟". النحات لم ير قط فيلاً أو ذكر زرافة كهذه التي ينقشها بحماسة بالغة. يتناول قطعة من الخشب غير منحوتة بعد. هل ستصير هذه القطعة فيلاً أم ذكر زرافة؟ نقشه على الخشب هو أيضاً حلمه.
إيفون فيرا كاتبة من زمبابوي
ترجمة مازن معروف

دلالات

المساهمون