لم أعد أفكر بفلسطين كثيراً!

لم أعد أفكر بفلسطين كثيراً!

02 فبراير 2020
+ الخط -
وقد أتى علي حين من الدهر، كنت أفكر بفلسطين كثيراً، أكثر ربما مما ينبغي لغير الفلسطيني أن يفكر بفلسطين، ولم أكن في ذلك وحدي، وللأسف لا أظن أنني الآن وحدي الذي لم يعد يفكر بفلسطين، كما كان يفكر بها من قبل.  

لا زلت أذكر حلم يقظة طويل من أيام الطفولة، راودني لأول مرة بعد أن قرأت قصة لكاتب الأطفال محمود سالم، عن حبة سحرية تمكِّن من يتناولها من القدرة على التخفي، ليصبح قادراً على فعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب، كنت وقتها حديث عهد بالاهتمام بفلسطين وشئونها، وكان الاجتياح الإسرائيلي للبنان قد وقع للتو، كنت في الثامنة وقتها، وبدأت أسمع من أبي وأمي وخالي حديثاً متكرراً عن مذابح متفرقة تعرض لها الفلسطينيون، مذابح كنت أحفظ أسماءها قبل أن أعرف ملابساتها: "دير ياسين ـ تل الزعتر ـ الطنطورية ـ صبرا وشاتيلا ـ كفر قاسم"، أفزعني ما كنت أسمعه وما بدأت أقرأ عنه، وأصبحت أرى الشر المطلق متجسداً في وجه مناحيم بيجن الذي كان متكرراً في الصحف والمجلات التي تدخل بيتنا، ولذلك لم يكن غريباً أن أحلم مراراً وتكراراً بتناول حبة الإخفاء السحرية، لأقتحم مكتب بيجن وأقوم بتصفيته ومغادرة المكان وسط ذهول حراسه، وفي كل مرة كنت أقوم بسد الثغرات الدرامية غير المنطقية في الحلم: كيف سأصل إلى إسرائيل؟ كيف سأعرف عنوان بيجن؟ من أين سأحضر السلاح؟ وكيف سأعود إلى البيت؟

كانت تلك أول عملية تأليف درامي أقوم بها، ولذلك استغرق إنجازها في خيالي بعض الوقت، وبعد مرور فترة تطورت فيها محاولاتي لتطوير الحلم، أضفت إلى الحلم الطويل بعض "التحابيش" التي تضم مضاجعة مقاتلات إسرائيليات كنت قد رأيت صورة لهن في إحدى المجلات، شعرت بالخجل لأن نيتي لم تكن صافية لوجه فلسطين، فتلوث حلمي الطاهر بتحرير فلسطين بأفكاري المدنسة التي لم تدرك أن "عشق الروح مالوش آخر لكن عشق الجسد فاني". ارتبكت حين عرفت بعد فترة وجيزة أن بيجن لم يعد يحكم إسرائيل، لم أفهم كلمة (استقالة) التي قرأتها في الصحف، فلم أكن قد سمعت عنها من قبل، لكنني استبدلت بيجن على الفور في الحلم بخليفته إسحق شامير، واستمر تطويري لتفاصيل حلمي الذي سيحسم صراعنا مع إسرائيل، حتى وقعت انتفاضة الحجارة فقضت على حلمي، الذي بدا لي شديد التفاهة ولا علاقة له بالبطولة ولا بالبسالة، فكيف تحترم نفسك حين تتخفى بفعل حبة سحرية، لتقتل رئيس وزراء إسرائيل، في حين ترى طفلاً يواجه دبابة بحجر؟ 

من أجل فلسطين، شاركت في أول تظاهرة في حياتي، لتتكرر مشاركتي في المظاهرات عقب كل مجزرة ترتكبها إسرائيل، وعقب كل انتفاضة يغير فيها الفلسطينيون شكل أحلامنا بتحرير فلسطين. في صحف الحائط المدرسية وموضوعات الإنشاء ودفاتري الخاصة، كتبت كثيراً عن فلسطين، كتابات خطابية ومتحمسة وساذجة أحياناً، لكنني كنت أصدقها وأشعر أنها أقل ما يمكن فعله لمساندة الطفل الواقف أمام الدبابة. حين عملت في الصحافة، دخلت في معارك كثيرة ضد من كنت أعتبرهم يساعدون العدو في اغتصاب فلسطين إلى الأبد، بحديثهم عن التسوية والتفاوض والتنازلات والواقعية، لكنني اكتشفت بعدها أنني كنت منشغلاً بالدخول في "خناقات" ومعارك عن فلسطين، أكثر من انشغالي بمعرفة فلسطين والفلسطينيين، وأصبحت ألوم نفسي لأنني لم أكتب كثيراً عن فلسطين، بقدر ما كتبت في هجاء من أراهم يخونون فلسطين.  

حين زرت جنوب لبنان بعد تحريره، ذهبت إلى بوابة فاطمة، ولم أشعر برغبة جارفة في تنفيذ ما كنت قد عزمت عليه بأن ألتقط حجراً وأرميه على العدو في الجانب الآخر، كما رأيت إدوارد سعيد يفعل من قبل، كنت لا أزال "مكبوساً" من تأثير زيارة معتقل الخيام الذي كنا قد قدمنا منه لتونا، أحاول مغالبة شعوري بالفزع بعد أن شاهدت الزنازين الانفرادية، وأحاول التوقف عن البكاء منذ أن قرأت كتابات المعتقلين على حيطان الزنازين، جلست على أقرب نقطة ممكنة من أرض فلسطين وبكيت مجدداً، ثم غنيت مع فيروز: "كانت لنا من زمان بيارة جميلة وضيعة ضليلة ينام في أفيائها نيسان، ضيعتنا كان اسمها بيسان"، تلك الأغنية التي كانت أحب أغنية عن فلسطين إلى قلبي، مع أنني لا زلت حتى الآن لا أعرف موقع بيسان على الخريطة. 

تغير الكثير في تفكيري عن فلسطين، حين عشت في 2006 اختبار الحياة تحت القصف الإسرائيلي لبيروت، كنت قد رفضت الخروج مسرعاً من بيروت بعد أن بدأ العدوان الإسرائيلي عليها، تذكرت لحظة 82 التي بدأت علاقتي بفلسطين، وتملكتني رغبة في معاندة قدرة إسرائيل على فرض الأمر الواقع على بيروت، كما تفعل في غيرها، فبقيت أنا وزوجتي في بيروت وقتاً أطول مما كان ينبغي، وجربت الخوف كما لم أجربه من قبل، ورأيت حيرة الناس العاديين وقلقهم وضيقهم، حين يُفرض عليهم الدخول في معارك لم يختاروها، وبدأت أفكر بشكل مختلف في الفلسطيني الذي نتضامن معه دائماً دون أن نختبر مشاعره، نطالبه بالصمود والتصدي، ونستهجنه لو طالب بالهدنة أو تحدث عن السلام، نحبه شامخاً متحدياً، ونستغربه باكياً متصدعاً، ولا نفهم لماذا ينضم إلى أحزاب مختلفة متصارعة، كما يفعل الناس في كل مكان من العالم، ولا نتحمس له حين ينتج أدباً وفناً لا علاقة له بالمقاومة والشهداء والكفاح المسلح، ولا نبحث في أي فلسطيني إلا عن صورة الفلسطيني كما ألفناها وتعودناها، وعاهدت نفسي منذ ذلك الوقت أن أفكر أكثر في الفلسطيني ومطالبه وأحلامه ومخاوفه، أكثر من تفكيري في رغبتي في الحديث عن مطالب الفلسطيني وأحلامه ومخاوفه، وأصبحت حريصاً على الكتابة عن فلسطين وما جرى لشعبها وما يفكر فيه أدباؤها وفنانوها ومثقفوها، أكثر من حرصي على كتابة تصوراتي الخاصة عن فلسطين.

في العقد الأخير تغير المزيد من شكل تفكيري في فلسطين، حين أرى الجرائم التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون بحق المتظاهرين الفلسطينين العزل في مسيرات العودة والمظاهرات المتضامنة معها في المدن الفلسطينية المحتلة، لا أستطيع منع نفسي من التفكير في آلاف المتظاهرين العزل الذين قتلتهم الجيوش العربية بدم بارد في سوريا ومصر وليبيا واليمن، وأقول لنفسي: لعل بنيامين نتنياهو يحسد عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد على قدرتهم على العربدة الكاملة دون أن تهاجمهمها صحافة أو يسائلهما عضو في برلمان. أصبحت حين أسمع كلمة مذبحة لا يتبادر إلى ذهني فقط المذابح التي حفظت أسماءها وأنا طفل، فقد أضيف إليها الآن مذابح رابعة وحمص ودرعا وحلب والمنصة. أصبحت حين أرى ما ينشر عن أوضاع الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل، أشعر بالخزي حين أدرك أنها أفضل من أوضاع الأسرى العرب في معتقلات الأنظمة العربية. أصبحت حين أسمع كلمة الاحتلال أفكر في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق واحتلال الأنظمة العربية القمعية لبلادها واستحلالها لحرمات ومقدرات شعوبها، وأصبح يملؤني سخط خانق مرير لم أعهده من قبل، على الجنرالات العرب والقضاة العرب والمخبرين العرب والمنافقين العرب الذين لم يكفهم كل ما ارتكبوه من جرائم التفريط في الحق الفلسطيني واستخدام القضية الفلسطينية كحجة للنهب والسلب والقمع، فأضافوا إليها الآن جريمة غسيل سمعة إسرائيل، وجعلها برغم كل جرائمها ومجازرها تبدو أقل وحشية، مقارنة بما يفعله حكام الأنظمة "الوطنية" بشعوبهم، ولذلك أصبحت أراهم مثل إسرائيل تماماً: عدواً واضحاً صريحاً، لا خلاص لي ولأبناء العرب إلا بالتخلص من احتلاله الكريه الذي يحرمنا من حقنا في الحرية والكرامة والعدالة.       

مؤخراً ضبطت نفسي متلبساً بحلمي الساذج القديم باستخدام حبة الإخفاء السحرية، لكن الهدف لم يكن إسرائيلياً هذه المرة، لم يشعرني حلمي الجديد بالنشوة الغامرة التي كان يشعرني بها حلمي القديم، لأنني أصبحت أعرف أن طريق خلاصنا "طويلٌ ويطولُ"، وأن فلسطين لن يحررها إلا أحرارٌ، وأن أكثر الآراء وجاهة فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي قيل في لحظة ما، في السبعينات ربما، لحظة ربما بدت للكثيرين عنترية وخطابية، مع أنها كانت رمية عقلانية بدون رامٍ، رأي لخّصته عبارة تقول: "الطريق إلى تحرير فلسطين يبدأ بتحرير العواصم العربية". 

...

طلب مني بعض متابعي المدونة الأعزاء تعليقاً على المهزلة المسماة بصفقة القرن، فلم أجد ما أكتبه غير هذه السطور التي نشرتها العام الماضي في مجلة (الدراسات الفلسطينية)، والذي نشر في ملف شارك فيه عدد من الكتاب العرب تحت عنوان (فلسطين في مرايا الثقافة العربية).

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.