لمن تُكتَب النهضة حقًّـا؟

لمن تُكتَب النهضة حقًّـا؟

05 يناير 2016
من أعمال كاندينسكي(Getty)
+ الخط -

لم تبق وسيلة إعلام واحدة في إسرائيل إلا وأبرزت، وهي تودّع سنة وتستقبل أخرى، نبأ اعتبرته استثنائيًا فحواه منح وزير داخليتها بإيعاز من وزيرة ثقافتها أخيرًا تصريح دخول إلى شاعر إيراني منفيّ اسمه "بَايَام فيلي" للاحتفاء بصدور ترجمة عبرية لروايته "سوف أنمو وأحصد ثمارًا… التين"، في أول إصدار بلغة غير الفارسية، ولحضور العرض الأول لمسرحية "ثلاثة أسباب" المعتمدة في جزء منها على قصائده في مدينة "تل أبيب".
وبالتوازي لفتت العناوين العريضة التي غطت هذا "الحدث" إلى أن "فيلي" داعم لـ"الدولة اليهودية" و"تعرّض للاضطهاد في دولته بسبب حياته الجنسية لكونه مِثليًا، وعلى خلفية آرائه السياسية".
ونوهت بعض التقارير بأنه تم نشر نسخة خاضعة للرقابة من كتاب "فيلي" الأول "منهاج الشمس" في إيران عندما كان في التاسعة عشرة من عمره سنة 2004. ومنذ ذلك الحين، لم تُمنح موافقة على أي عمل آخر له من جانب "وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي" باعتبارها الهيئة الثقافية للرقابة الرسمية في إيران.
بدوره أدلى "فيلي" بمقابلات عديدة أكد فيها من ضمن أشياء أخرى، أنه لا يمكن أن تُكتب نهضة ثقافية لأي دولة إلا بالحرية والديموقراطية، وكاد أن يقول "كما هي حال النهضة الثقافية في الدولة اليهودية".
لا شك بأن في حالة "فيلي" ما يفسّر الشعور بالخوف والنفور من الرقابة المستبدّة على الطراز الإيرانيّ، لكن استنتاجه المتعلق بالنموذج المُلهـم لا يتوافر على حدّ أدنى من المعرفة بماهية هذا النموذج.
وهذا الافتقار إلى الحد الأدنى من المعرفة هو الذي يجعل كُتابًا عربًا يطلقون، بين الفينة والأخرى، أحكامًا تعوزها الصدقية حول الواقع الثقافي السائد في إسرائيل في مقدمها الحكم الجارف بشأن "سيادة" مبدأ حرية التعبير داخلها.
أذكر أنه قبل أكثر من عام تناولت كاتبة عربية تعيش في دولة أجنبية تجربة للممثلة المسرحية الإسرائيلية الراديكالية "نتالي كوهين فاكسبرغ" في نطاق عمل فني اشتمل على مقاربة لموضوع الهولوكوست وتجييره من طرف المؤسسة السياسية الصهيونية من أجل تبرير كل حروب دولة الاحتلال وممارسات قمع الشعب الفلسطيني، إلى أن تنتهي بإنكاره، وبالتبرّز عليه وعلى علم الدولة.
ومما كتبته هذه الكاتبة في سياق استحصال التجربة ذاتها "إن مثل هذه الأصوات ما كانت لتتجرّأ على تحدي تابو الهولوكوست في السابق. ولست أدري إن كان بالإمكان أن نعزو هذه الفسحة من الحرية إلى الفضاء الإلكتروني الذي يشكل غطاء من الحماية على هوية مستخدميه، أو إلى وعي جديد بدأ يغزو الجيل الجديد من اليهود الإسرائيليين والذي لا تملك معه إسرائيل إلا التغاضي والتساهل استنادًا إلى مبدأ حرية التعبير التي تكفلها لمواطنيها"!.
أغفلت الكاتبة أن "كوهين فاكسبرغ" اعتقلت على خلفية هذه التجربة، وما تزال تخضع للتحقيق حتى يومنا هذا، بما في ذلك تحقيقان أجريا معها خلال الشهر الفائت فقط.
طوال عمر "الدولة العبرية" كانت الرقابة آلية مركزية في يد السلطة السياسية الصهيونية للدفاع عن نفسها وعن سياستها العامة.
بالتزامن مع كتابة هذا المقال، رفضت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية إدخال رواية عبرية إلى منهاج التدريس معتبرة إياها تشكل خطرًا على هوية الطلاب اليهود نظرًا إلى كونها تُشجّع على الذوبان وعلى اختلاط الفتيات اليهوديات بالعرب.
ويدور الحديث حول رواية "سياج حيّ" للكاتبة دوريت رافينيان التي تحكي قصة علاقة غرامية مُتخيّلة بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني، طالب مدرسون بإدخالها إلى منهاج تدريس الأدب العبري.
هذه الوزارة نفسها تعدّ العدّة في الوقت الحالي لإصدار كتاب جديد لتعليم موضوع المدنيات (المواطنة) يعرض إسرائيل كدولة يهوديّة دينيًّا وقوميًّا، ويُهمّش القيم الديموقراطيّة (المُهمّشة أصلًا)، ويحوّل مبدأ "حكم الأغلبيّة" إلى "دكتاتوريّة الأغلبيّة"، ويتجاهل مبدأ حماية حقوق الأقليّة، ويقسّم الفلسطينيين في مناطق 1948 إلى طوائف دينيّة لا روابطَ بينها، ويجزم بأنّه لا يحقّ لهم التمتّع بحقوق جماعيّة أيًّا كانت!
هكذا يجري ضمان ألا يتعدّى سؤال الهويّة سياج التمسك بالتعصّب والتطرّف وإقصاء الآخر.
كما يُصار إلى تكريس آليات لإنتاج "معرفة ثابتة" يقف على رأسها "الإجماع"، من دون أدنى اعتبار لما اصطلح على تسميته بـ"القياس"!

إقرأ أيضا: "الدراسات الفلسطينية": السياسة والحدود والثقافة
 

المساهمون