لمحات من زمن العجائب

لمحات من زمن العجائب

21 يونيو 2020

(هاني حوراني)

+ الخط -
إنه زمن العجائب لا محالة، زمن غريبٌ عجيبٌ، تبدلت فيه المفاهيم وانهارت القيم، وعمّت مظاهر الجنون وغياب المنطق. أصبح القابض على ما بقي من مدارك عقله كالقابض على جمرة، ما الذي يحدُث في رؤوس البشر؟ كيف تغيّر بعضهم إلى هذا الحد الجذري غير القابل للتبرير، بحيث بات يجمل فعلاً في منتهى القبح، مثل الخيانة، وينبري لإيجاد الذرائع والمبرّرات لحكاية رجلٍ قتل لحم أخيه ميتاً، اغتاله بالوشاية والاختلاق والافتراء والنميمة الرخيصة. نبش القبر، وانتشل الجثة ومثّل فيها، من دون أن يرفّ له جفن، فيما الغائب لا يملك حق الدفاع أمام فظاعة المشهد، حتى لو جرّدناه من الاسمين الشهيرين لكل من الجاني والمجنى عليه، لأننا هنا بصدد مبدأ أخلاقي بسيط متفق عليه، ينص على أن المروءة والشهامة تقتضيان حفظ غيبة الآخرين تحت أي ظرف. الأسماء هنا لن تضيف شيئاً إلى الحكاية المؤسفة، الكفيلة بجعلك تعلن يأسك الكامل، وتوقن أنك، منذ البداية، كنت وحدك، وليس ثمّة من تعوّل عليه في هذه الدنيا الموحشة القاسية التي يبيع فيها المرء صديقه، من أجل ثمنٍ بخس، لا يغني عن كرامة وعزة نفس.
وفي زمن العجائب نفسه، تنتحر صبية في الثلاثين من عمرها. تموت وحيدة في الغربة، تكتب بضع كلمات موجعة، تنشد فيها رأفة السماء، بعد أن خذلها من في الأرض. تقرّر الفتاة، في لحظة انكسار، وضع حد لحياةٍ لم تمنحها سوى الظلم والقهر والاضطهاد والتحرّش في سجون أنظمة الفساد والطغيان، حيث تعرّضت للضرب والشتم والتحقير، في تعبيرٍ بغيضٍ عن كراهية مجّانية، بسبب خياراتٍ تخصها وحدها، لم تفرضها على أحد، فاشتعلت الدنيا تنديداً من مندوبي الله على الأرض! بمن سوّلت له نفسه الترحم عليها، أو إبداء أي نوع من التعاطف الإنساني. استمروا في جلدها بأحقر الشتائم وأكثرها قسوة ووحشية، بعد أن تركت لهم الدنيا، ليشبعوا بها وليقيموا مدينتهم الأفلاطونية الفاضلة الخالية من الشوائب. ومع ذلك، ما زال الشتم والتحقير والتشويه والشماتة في مواقع التواصل قائمة، بلا أدنى حسٍّ إنسانيّ. هكذا يقول المنطق الذي غاب كلياً عن منظومتنا الأخلاقية المتذبذبة التي لا تخلو من نفاق وازدواجية وبراغماتية عفنة، حيث الخطايا يمكن تمريرها طالما ظلت في الخفاء "لا من شاف ولا من دري".
وفي السياق العجائبي نفسه، يبث فتى أحمق عديم التربية، يظهر بلباس أقرب إلى هيئة مغني راب، يتعاطى الممنوعات في أزقة نيويورك، جينز ممزّق وسلاسل وقبعة مقلوبة، لديه خمسة عشر ألف متابع على تطبيق "تيك توك"، يبث فيديو بمحتوى رثّ ينتقد فيه ملابس الفتيات غير المحتشمات، من وجهة نظره البائسة، ويحرّض الشباب على التحرّش بهنّ واغتصابهن، ويؤكد حقهم في اغتصاب أي فتاة يصادفونها إذا كان لباسها غير محتشم. أثار كلامه غير المتزن موجةً من الغضب والاستياء، ما أدى إلى القبض عليه، وزجّه في السجن، تمهيداً لمحاكمته بتهمة التحريض على الجريمة، غير أن المفجع ذلك العدد الهائل من المعلقين، رجالاً ونساءً، ممن يشدون على يد هذا الفتى في ما ذهب إليه، محمِّلين المرأة المجرمة المستهترة مسؤولية انحراف هؤلاء الشباب الأبرياء المساكين، المُجبَرين رغماً عنهم على ارتكاب جريمة الاغتصاب، كان الله في عونهم!
ألم نقل إنه زمن العجائب؟ لذلك، وبكل أسىً، نضمّ صوتنا إلى ذلك البدوي، حين صاح متحسّراً: "يا زمن الشقلبة ويش سويت!".

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.