لماذا لا نكبر في نظر البعض؟

لماذا لا نكبر في نظر البعض؟

11 يناير 2020
+ الخط -
يمرّ كل واحدٍ منا بمراحل مختلفة في مسيرة هذا العمر، فيسير الواحد منا في هذه الحياة بين إخفاقٍ ونجاح، يبني نفسه بنفسه ومن خلال خبراته وتجاربه، فتتغير مداركه وأفكاره، وربما يبقى البعض على ما هو عليه، ولكن التغيير الحقيقي لا يجب إلا أن يكون متصاعدًا، وهنا تأتي الطامة الكبرى، عندما يتم التعامل، أو النظر، إلى هذا الرجل أو تلك الفتاة، النظرة نفسها التي رمقوه بها منذ عشرٍ أو خمس عشرة سنة، من خلال منطلقات قد عفا عليها الزمن، أو انتفت بفعل الأيام.

ما سأقوله هنا، ليس معاناة شخصية بالضرورة، ولكنه جزءٌ من تجارب خضتها وعاينت بعضها، تنطبق على الكثير من أقراني وزملائي، إذ تظل في نظر البعض ذلك الطفل أو الفتى، مهما تقلبت فيك الحياة، ونهلت من تجاربها، لن يتغيروا معك إلا بالمقدار الذي تفرضه عليهم بتعاملك، وهي نقطة أعود إليها لاحقًا، ولكني أبتدئ بقصة جرت معي إبان المرحلة الجامعية: إذ التقيت مصادفة بصديقين كانا زميلين لي في المرحلة المتوسطة، وأخذا بالمزاح بصيغ وكلمات تلك المرحلة، فلما وجدا مني اعتراضًا على هذا الأسلوب، وأكدت لهما أننا كبرنا عن هذه "الإفيهات" السخيفة، أعلنوها سريعًا: صار شايف حالو"، ولم تستطع ست سنوات وأكثر أن تقنعهم بتغيرنا.

هذه القصة على بساطتها ليست إلا نموذجًا لمن لا يريد أن يراك كبيرّا، أو لا يصدق أنك قد نضجت، من النواحي الفكرية والاجتماعية، والبعض يشعر بذلك وقد رزقه الله أولادا، وتتنوع هذه الحالة من زملاء ورفاق أو أساتذة، وصولًا إلى العائلة وهي الحالة الأكثر شيوعًا وقسوة. إذ يعاني من يتعرض لها حالة خفية من التنمر، فإما يكون التعامل معه هامشيًا في الكثير من القضايا، أو لا يكون له أي وزنٍ أو قيمة في أي نقاش، ولا يقدم عنه غيره لفكره أو نضوجه، بل بسبب حالة التنميط السابقة، وتصورات مختزنة، تصور أن فلانًا أنضج من فلان، أو أن نقدم علانة لتميزٍ سابق في الدراسة أو الهواية، إذ تترك هذه الممارسات في إطار الأسرة أثرًا غائرًا على النفس، خاصة أن إطار العلاقة ليس محدودًا بدراسة أو صداقة، بل هي علاقة ممتدة طول العمر....

ويحضرني هنا مشهد للفنان الكوميدي أحمد أمين عن وعدٍ من والدٍ لطفله، يقضي أن يشتري له دراجة هوائية إن نجح في الابتدائية، وظل الوعد ثابتًا مع نجاح ولده في كل مرحلة عمرية وجواب والده أنت لم تقم بشيء، حتى جاء إليه ومعه عدة شهادات دكتوراه وأنه مدير في وكالة "ناسا" –لمزيد من الضحك- وكان جواب والده المكرر "انت عملت حاجة".

أعود لقضية هذه التدوينة، أرى أن مشكلة من يمارس هذه النظرة، إن كان أبًا أو أخًا أو مرشدًا، أنهم ما زالوا يرون ولدهم والأصغر منهم طفلًا ما بلغ شيئًا من الدنيا، وتظل هذه النظرة لديهم ثابتة لا تتغير، وتنعكس على تصرفاتهم وآرائهم به، فتجد تبخيسًا دائمًا لكل أمر من أمورهم، أو عدم الاهتمام بأي إنجازٍ وتطور مهما كان حجمه وأثره، أما إن قام به غيره، فسيلقى تجاوبا وتفاعلاً، وسيكون الفرح فيه أبرز وأعظم، وهي معادلة تؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية بشكلٍ لاواعٍ، إضافة إلى مكانة هؤلاء ومحوريتهم في علاقتهم مع الشخص "الضحية"، وقد عاينت انسحاب الكثيرين من الكثير من الأطر والبيئات التي يعانون منها من هذا التعامل.

 مر معي مرةً شكوى لأحد الأصدقاء على واحدة من صفحات التواصل الاجتماعي، يقول فيها إن لديه شيخًا دمثًا طيبا مهذبًا، ولكن نصائحه تأخذ دائمًا طابع التقليل منه ومما يقوم به، فتكون نصائحه فجة قاسية، على نحو "اذهب إلى فلان استفد منه"، لكونه بنفس اختصاص الشاب أو أنه ممن يتحدث كثيرا في قضايا مشتركة أو ما شاكل، وقد أكمل هذا الصديق بأن شيخه لو قال له، أتعرف فلانًا لقد تميز في اختصاصه خاصة بمجال كذا وكذا، لوضع حافزًا عندي، ولكني صددت عنه إذ أشعرتني نصيحته بأني جاهل أو قريب من ذلك. سيقول لي أخ حصيف بأن هذا الكلام وجزءٌ مما سبق، يستند إلى جزء من الشعور والإحساس، فليس بالضرورة نظرة هؤلاء، أقول لهم نعم هذا الكلام الصحيح، إن صدر مرة عابرة، ولكنه إن تكرر وأصبح حالة عامة في كل شأن من الشؤون، سيؤكد أنه وجهة نظر وطريقة تعامل.

أخيرًا، أنصح نفسي، ومعاشر القراء والأصدقاء الكرام... انظروا بعين القسط لمن هم دونك عمرًا وعلمًا، فمن كان بالأمس طالبًا صغيرًا أضحى اليوم أستاذًا مميزًا، ومن كان ولدًا صار اليوم والدًا، ومن كانت طفلة صغيرة تلهو وتلعب، هي نفسها تلك الصبية الجامعية المتوقدة نشاطًا وحيوية، أو تلك الأم المسؤولة المحبة المعطاءة المربية الحصيفة الواعية... إنزال الناس مقاديرهم هو خلقٌ نبوي... أما إنزال الناس وفق تنميطنا هو نزعٌ نفسيّ... وشتان شتان بينهما....

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".