لقد توقّف النّبض

لقد توقّف النّبض

08 سبتمبر 2020
+ الخط -

مساء السبت الفائت، اختفى النبضُ الذي أشعرنا لأيام أن ثمّة ما لا يزال حيّا فينا، فقد أمّلنا على الرغم من انعدام الأمل، وعلّقنا بحبال من وَهْمٍ وأضغاث أحلام، وأرادنا أن نكذّب الواقعَ، ونكذّب أنفسَنا، ونكذّب ما كنا ندركه ونراه بجلاء. أجل، آمنّا بحاسّة الكلبة التشيلية فلاش وإحساسها، لأنها في جانب الضحية، والضحية لا تكذب. ثم جاء دور الجهاز "لايف لوكاتور" ليؤكّد موهبة فلاش في الكشف عن أحياء، والجهاز لا يخطئ، ولم يسبق أن أخطأ من قبل. أجل، هناك من يرقد تحت الركام من نحو شهر، وقد سُمع له صوتٌ من بعض المارّة الذين شهدوا وبلّغوا من دون أن يُستجابوا. إلى أن جاء الفريقُ التشيلي ليؤكّد ما قالوه. هناك، وسط الحطام والجدران المنهارة والردم، روحٌ عالقة، طافيةٌ بين الحياة والموت، روحٌ أسيرةٌ تنتظر من يطلق لها العنان لتنطلق وترتاح. لقد انتظرتْ ساعاتٍ، أيامًا، أسابيعَ، ولم يأتها أحد. تُركت وحيدةً، جائعةً، عطشى، موجوعةً، بعينين مفتوحتين وفم يلهث، لأن ثمّة من يقرّر عنّا دوما أننا لسنا أهلا للحياة.
مذ عرفتُ بوجوده هناك، وقلبي يروح ويجيء محرّكا ذنبه مثل فلاش، وقلبي يكاد يقفز من عينيّ. اللبنانيون جميعا شعروا هكذا على ما أظنّ، بعضُهم أطلق عليه تسمية "نبض بيروت"، وآخرون "نبض لبنان"، وقد بات أملا قبض على قلوبنا، وجعلنا نرجو ونتوسّل ونصلّي بحرارة أن لا يتوقف أو يكلّ. صلّينا لحدوث معجزةٍ تقول لنا إن رحمة الإله ما زالت موجودة، وإننا ما زلنا ننعم بها، على الرغم مما أنزل بنا من حروبٍ وأوبئةٍ وويلاتٍ وموات. يا أيها الإله، النبض هذا رسالة تبعثها إلينا، أليس كذلك؟ لا بد إذاً من أن تضع لها الخاتمة الصحيحة: أن يُسحب الحيُّ من تحت الرّدم، في اللحظات الأخيرة، فيُسعف، ويحيا، وننطلق نحن بالتصفيق والزغردة والتبريكات والأعراس. كما في الأفلام. لأنه ما زال هناك أمل. نريد خاتمةً واحدةً سعيدة، إيجابية، خيّرة، خاتمة تعدنا ببدايةٍ ما. دعنا نصدّق أن رحمةً ما لم تزل من حقّنا، أن عدالة إلهية ما زالت ترعانا، ولو من بعيد، وأن الإله لم ينسنا وما انفكّ يرسل نورَه إلينا مهما خفت وناس.
ثلاثة أيام بحالها ونحن نسهر على قنديل ذاك الأمل الضعيف، ثم نقوم إلى أولادنا وصغارنا، وتنفيذ مهامّنا اليومية، لنسارع من ثمّ إلى التلفزيون. هه، ما أخباره؟ هل ما زال النبضُ حاضرا؟ متى ستخرجونه وكيف؟ ولمَ أنتم واقفون هكذا كالتماثيل فوق الركام؟ ماذا لو نزلنا جميعا وجعلنا نرفع حجرا تلو الآخر، إلى أن نأتي على الركام؟ تروح الكلبة وتجيء، مصحوبة بأعصابنا، بأمعائنا، بأرواحنا، ثم تفيدنا آلةُ السكانِر بأن النبض صار سبعة في الدقيقة، وأن الوقت محسوب. يا ربّ، نصرُخ في أحشائنا، إلى متى سيصمد؟ يا ربّ، أنقذه ويكون لك الملك والمجد إلى أبد الآبدين آمين..
ليل السبت الماضي، أعلنت فرقُ الإغاثة أنّها لم تعثر على "أيّ مؤشّر حياة" تحت الأنقاض، بعدما دخل مسعفان الممرّ المفضي إلى الفجوة التي اعتقد أنّها مكان الضحيّة، لكنّهما لم يعثرا على أيّ شخص. نزلت دموعي محرقة. لقد كنّا كثرا نحنُ من بكينا بصمت. كنّا في حدادٍ ندفن عزيزا، منتحبين بحرقةٍ ومتسائلين بمرارة: كيف تخطئ كلبة متدرّبة سبق أن أنقذت أرواحا، بل كيف يخطئ جهاز؟ ينبغي أن ندفن ميّتا لم نجده، وموتى من بعده سيجيئون. قلوبُنا مدافن خاوية تتسّع للجميع. لا، ما كذب النبضُ، وما توهّمت فلاش، وما أخطأ الجهاز. كان هناك ثمّة نبض، وكان بالفعل نبضَ بيروت.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"