لغة جبر الخواطر

لغة جبر الخواطر

09 مايو 2019
+ الخط -
تسمع في "قعدات الصلح" مفردات عاطفية حرّاقة من آنٍ إلى آخر، مثل: "تركنا العيبة الكبيرة عشان لحمنا اللي عندكم" أو "اتركوا بطحة العيّل جبرا لخاطر الرحم".. إلخ، كلمات من هذا القبيل للتراضي والمؤانسة ونسيان الجراح، ورتقًا للخصومة والدماء، وهذا يليق بقعدة الصلح بين المتخاصمين في القرى والكفور والنجوع، ولا يليق أبدا بإدارة الأوطان التي تحكمها الديمقراطية التي لا تراعي خاطر أحد، ولا تهتم بصناعة السرادقات والزغاريد والموالد أو الرقص، ولا حتى بكلب سما المصري، وهو يدخل اللجنة مبجّلا معزّزا، ولو كانت فعلتها سما المصري، ودخلت بالكلب إلى كازينو بديعة، لطردتها مع الكلب.
ولكن نحن نستمع إلى رئيس من سنوات يسرّب مثل هذه الكلمات الناعمة جدا "عند الطلب"، لزوم جلب التصفيق مثل "كده" أو "إنتوا مش عارفين إنتوا نور عنيننا ولا إيه؟" أو "مصر أد الدنيا وهتبقى أد الدنيا"، أو "لو معايا هديك" أو "لازم تعرفوا إن محدش مخلد" أو "الكفن مالوش جيوب" لمبارك، وطلع فيما بعد أن في الكفن "بنوكا" سيّارة، وتمشي على رجليها من مصر الجديدة حتى سويسرا وأميركا.
هذه المناورات العاطفية المغموسة بزهد الدين ومروياته بضاعة قديمة، استخدمها الجبابرة أيضا، واستخدمها الرئيس عمر البشير أيضا، حتى آخر أسبوعين من حكمه ولثلاثين سنة خلت، ولم تشفع له، حينما أزفت، وانتهى حكمه ومروياته، ولا حتى العصا التي كم تراقص بها، وللأمانة، كان أكثر سلاسةً في الكلام، وأكثر بلاغة.
نحن أمام أناسٍ ترى ممالك أخواتها تقع بجوارها، ولا تغير الخطاب، ولا حتى تشكّ في أدواته أو بنيانه، فقد ولّى زمن الحاكم الكاهن، أو القديس، أو صاحب النبوءة وخاتم الملك، ودخلنا زمن المؤسسات والصناديق التي لا تعرف الوعود، ولا "اصبروا معايا لأن لسه الثمار بدري أوي"، كل هذا الدجل لفظته الجماهير منذ أزمنة، إلا أنه ما زال يخيّم في عقلياتٍ جاءها السيف في الحلم، وقد كُتب عليه بالأحمر "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، مثل هذه العقليات التي تبحث عن "جبر الخواطر"، على الرغم من أن جبر الخواطر قد تم، بعد التجويع، كما أوصاه مستشاره العلمي أحمد عكاشة، بكراتين الزيت والسكر والصلصة والأرز والمكرونة. لا تنسى أن لغة جبر الخواطر الناعمة يقابلها أيضا على الجانب الآخر، عند اللزوم أيضا، لغة الشخط والنطر والبحلقة عن بعد، أو لغة العين الحمرا والبحلقة من الجنب، بشراسة التهديد بعد ليّ العنق، والميل إلى الوراء قليلا، أو لغة التعالي والحكمة، مثل: "أصل أنا ربنا خالقني كده أوصف الدوا". وقد يصعد "تون" النبرة من داخل الحنجرة، مع ارتفاع طبقة القرار مع لمحة من بحلقة "الخط" الممسك بكرسي الرئاسة: "ما تسمعوش لحد غيري" "أيوه ما تسمعوش لحد غيري".
واضح أن الشعب لم يصل بعد إلى سن التجنيد، ومشايخ الخفر والعمد قد أرسلوه إلى مراكز التجنيد بالخطأ، وقد يندفع صاحب الكرسي ووريثه في الحلم متخيلا جيوشا آتيةً من بلاد البربر، لأخذ ذلك الكرسي منه، فيقول متوعدا كل الشعب: "اللي هيقرّب من الكرسي ده هشيله من على وش الأرض". هنا نكتشف على الفور أن لا حكمة لا في صناديق، ولا ديمقراطية، ولا بظرميط من كلام الغرب الذي يردده الساسة صبح مساء، قائلا: "أصل إنتوا مش عارفيني" ويكمل: "أنا ما ليش في السياسة"، وكأنه يدفع الجميع إلى الحرب، فلماذا تحولت العيون من دامعة أسيانة إلى عيون ضبع، وقد أمسك بحافّة الكرسي ناسيا "نور عنيننا"، إنه الكرسي صاحب الأفاعيل. حينئذ لا تحدثني عن زراعة النخيل، ولا الجمبري، ولا تقبيل الأطفال في وسط الضباط أو الجنود، ولا القيام للسلام على فاتن حمامة، أو إعطاء الشهادات التقديرية لأم كلثوم، أو اللواء محمد عبد الوهاب، بل اسألني عن كم طلقة في المسدس وكم مليار "يا كامل" وصلت إلى الخزينة من المحبوسين كي ندفعها، على العيد، للغارمات، فقد اشتقت للدموع والمناديل.