Skip to main content
لعنة تاريخ ونبوءة شاعر
ياسر البنا
ناهض الريّس (1937-2010)

في كتابه القيّم "مُذكرة الأم المُربية"، يضع المرحوم ناهض الريّس فرضية، تقول إن العرب ما زالوا يعانون من "لعنة التاريخ"، وإن الإشكاليات التربوية التي تواجههم، اليوم، ما هي إلا انعكاس للنكسات والهزائم التي لحقت بهم خلال الحقب التاريخية الغابرة، وخصوصاً في العصرين، المملوكي والعثماني، بالإضافة إلى ما عانوه من ويلات "المغول". ويرى الريّس، وهو كاتب وأديب فلسطيني، أن عهود ما عرف بالاستقلال الوطني في البلاد العربية والإسلامية لم تكن إلا تمثّلا وتكراراً لما جرى في معظم العهود التاريخية الماضية.
حينما قرأت الكتاب، أول مرة، في يوليو/تموز 2009، لم أقتنع بما ذهب إليه مؤلفه، واعتقدت أنه "شطح" بعيداً، فليس منطقياً أن تكون آثار هزائمنا التاريخية منعكسة على سلوكنا التربوي مع أبنائنا إلى هذا الحد. لكنّ الانتكاسات التي عمّت بلادنا العربية، اليوم، جعلتني أتذكر هذه "الفرضية"، وأن أعيد قراءة الكتاب، مسجلاً تأييدي "النسبي" لها. ومن الإنصاف أن أذكر أن "الريّس" في كتابه، حرص على ألا يبخس "المماليك"، و"العثمانيين" أشياءهم، فذكر أفضالهم على الأمة والدين، ولم يكتف بذكر "السلبيات" فقط.
ولعل من المثير، أن ناهض الريّس الذي توفي في أبريل/نيسان 2010، (قبل أن يشهد "الثورات" العربية، وما تلاها من ثورات مضادة)، قد خرج بخلاصةٍ من كتابه سالف الذكر، بعد عرض تاريخي مطول، تحذر من آثار الحكم العسكري للأمة، حيث قال: "روح الفتوة والفروسية العسكرية، ومؤسسة المحاربين، كان لها الفضل في درء الأخطار، والذبّ عن حياض الوطن"، لكنه يستدرك: "إذا حكمت هذه الروح (العسكرية) طويلاً، واحتكمت إلى القوة، داخل الوطن، عرّضته لأفدح الأخطار، وأعاقت تطوره ومستقبله الآتي، وتورثه ضعفاً في قيمه وعقائده، ومفاهيمه التربوية، لأن التقدم والرقي، لا يكون إلا في أجواء الحرية، وتفتّح الإنسان وقدرته على حكم نفسه، بعيداً عن حكم القوة والعنف، وضيق الأفق".
وربما من المثير أكثر أن نقرأ أبياتاً من قصيدة، كتبها ناهض الريس، قبل سنوات طويلة من بدء الثورات العربية، وكأنه يتنبأ بها، وبما ستلاقيه، بل ويقدم نصائحه للثوار أيضاً. يقول في قصيدته "القسام يعلم في جامع الاستقلال":
إعلَم يا وَلَدي أن الثورَة بِنتُ السِّرْ/ تولَدُ في رحِم اليَأس/ يُودعُ نُطفَتَها العَقل الرَّاجحُ في القَلبِ المجنُون/ تَتَغَذى بالحبلِ السُريِّ من النَّار المُستِعرةِ في الأعماقْ/ فاحذَر أن يُجهضَهَا الإفصَاحْ/ واحذر أن يَخنُقهَا الكتمَان/ والثَّورَة في البدءِ زَواجُ الكلِمةِ بالإنسَانْ/ فَتَخيَّر للنطفةِ أرحَاماً لا يَبصُقُ فيها الزَّانُونْ.
وَاعلم يا وَلدي انَّ الثَّورَةَ/ تَعبُرُ في اليومِ الواحِدِ أربَعَةَ فُصُول/ تَختَصِرُ الزَّمَنَ/ وتَهَتكُ أستار المَجهُولْ/ تَحتَاجُ رُؤُوساً لا تَسكَرُ من أوَّلِ كَأس/ فَاحذَر إن كُنت خَفيفَ الرأسِ وعُتِّقَ لكَ خَمرُ السُّلطَة/ زُيِّنَ لَكَ أن تلعَبَ بالناسِ/ وَتَركبَ أرواحَ الشُّهداءْ/ فالعَرضُ يَزُولْ/ لا يَبقَي إلا وَجهُ الحَقِّ/ وَكَفُّ القُدرةِ/ وَدِماءُ الشهداء.
واعلم يا ولدي انَّ الثورَةَ أختُ رجَال/ لا تَبخَلُ أن تُطعمَهَا حَبَّ العَيْنْ/ تحْرسهَا وَهي تَنَامَى بالفِترِ وبالشِّبر/ فإذا شَبَّت وتوهَّجَ خدّاها كَالجَمْر/ حَسُنت في عينِ الثرثارِينْ/ ولقد يخطفُها عن فَرَسِ أبِيها قُطاعُ الطُّرقِ/ ويزعم نِسبَتَها الأعدَاءْ/ وَلقد يَخطبُها أهلُ المَال/ ولَقَد يَتَعجَّلُ ثَمَرَتَها حتَّى سَدَنَتُها الأبطَالْ/ لكنَّ الثورَةَ يا وَلدِي إرثُ الأجيَالْ.
....
....
واعلم، يا ولدي، أن الثورة ميلادُ الإنسان/ والنصرَ حصادُ الغَرس الطيبِ/ مَوهوباً للحَق/ لن تَنتصِر الثَّورة إلا بالصِّدق/ وإذا انتَصَرَت بالسارِقِ والخَائِنِ/ كَانت بِدعاً/ وانقضَّ لُصُوصُ الأمسِ على جَوهَرةِ الحُكْمْ/ وَاقَتتَلُوا حتى مُزقَ شَملُ النَّاسْ/ وانسَفَح على الأرضِ الوَهمُ المَعسُولْ/ ما نفعُ الثَّورةِ إن لَم تَصنَع زَمناً يجدُرُ بالإنسَانْ/ وَتَصنَع إنساناً يجْدُرُ بالنَّصر.