لبنان .. مائة عام من الأوهام

لبنان .. مائة عام من الأوهام

16 يوليو 2020
+ الخط -

صارَ عمر لبنان اليوم مائة عام. من وقت إعلان الجنرال الفرنسي غورو، عام 1920، عن تأسيسه، بضم "صغيره"، جبل لبنان، إلى الأطراف المشرقية المجاورة له، المبْهمة، وفي عصر يحتاج كباره إلى"الدول" و"الأمم" لكي يعرف كيف ينظّم صراعات كباره. مائة عام. منذ البداية، نشأ لبنان على أوهام كبيرة وصغيرة، تفاعلت كيميائياتها مع بعضها، فمنح للبشرية تجربة فريدة في معنى الخطيئة الأولى التي يمكن لجماعةٍ من البشر أن ترتكبها بحق نفسها؛ فتُفضي إلى ما بلغته اليوم من بلادٍ أكثر هلامية، أكثر لؤماً، أكثر توحّشاً من أي كيانٍ اخترعه البشر لأنفسهم. 

وهمْ الدولة والجمهورية والوطن والاستقلال؛ والأربعة يقومون على نقيض معانيهم، وبطريقة منهجية. دولة لها دستور وقوانين تديرها طوائف، بقيادة طائفةٍ واحدة، مداورةً، بحسب "ميزان القوى" الخارجي. لا تكتفي هذه القيادات بانتهاك قوانينها نفسها، غير العادلة أصلاً، من أجل أن تستمر على قيد سلطتها. إنما تخترع لها، على مرّ السنوات، أعرافاً جديدة، تحوِّل الطائفية التي قسمت الخيرات على أساسها، إلى حصنٍ منيع يحفظ هذه الأوهام من الوهن أو الاضطراب. 

تحصل في هذه الجمهورية انتخاباتٌ نيابية، ولكن ولا مرّة على أساس قسمة بين مواطنين أصحاب مشروع أو رأي، بل كلٌ حسب عزوة طائفته وقدراتها على تدجين الجمهور الناخب: بالزبائنية والوراثة والرشوات المتفاوتة القيمة، تراوح بين وظيفةٍ عليا أو دنيا في الدولة وشقّ طريق ذي مترين توصل إلى القرية. 

ما زالت أصداء "إلغاء الطائفية السياسية" تصمّ الآذان، أطلقها عتاة الطائفية المذهبية من بين أصحاب هذه الغلَبة

وهي "قسمة" نمت مع الوقت، واستقرّت على ما باتَ يُعرف اليوم بـ"المحاصصة". ليس بين الطوائف نفسها، إنما بين الذين نجحوا بالركوب على أكتافها. وكان لا بد من اختراع فكرةٍ تحفظ هذه "القسمة" من التآكل، فكانت "الديمقراطية التوافقية"، مفْخرة لبنان، التي تلغي كل إشارة ديمقراطية: من المنافسة إلى التصويت إلى نقاش البرامج إلى المحاسبة .. إلخ. نوع من الإرغام على التواطؤ غير الديمقراطي، حفاظاً على نعمة الغلَبة. 

وبما أن هذا الكيان لا يمتلك أسسا اقتصادية للاكتفاء الذاتي أو التبادل الندّي مع الدول الأخرى، المجاورة منها والبعيدة، فلكل طائفة "راع" خارجي، عربي وغربي، يدعم زعيمها، طمعاً بموطئ قدم له في هذه البقعة الجميلة الاستراتيجية، المختلفة عن محيطها بشعبها الجبار ووديانها السحيقة وينابيعها الوفيرة وجبالها الشاهقة. على مرّ السنوات أيضاً، تبدّل الداعمون، كان منهم الجُدد والمعاندون لتراجعهم. لكن الوظيفة بقيت، وتحوّل لبنان إلى دولة برّانية، تُترجم صراعات الأمم على أرضها؛ مرة سلمياً ومرات بالسلاح. "لا شرقية ولا غربية"، هو الشعار الذي كانت تلتحف به قيادات الطوائف، لابسةً بذلك طاقية الإخفاء، لتهدئ شوارعها، من حماستها أو إحباطاتها. ومعها شعار آخر، "لا غالب ولا مغلوب"، تفادياً لحسم أي صراعٍ خارجيٍّ على أرض هذا الكيان، ويمدّه بوسائل البقاء؛ وذلك حفاظاً على الاستثمار فيه، بحسب تقلّبات الزمن الخارجي ومصالحه. 

ولكي لا يستهلك الوقت هذين الشعارين الوطنيَين، كان لا بد من إلحاقه بأرداف (رديف)، تُعْلك صبحاً مساءً، وتتحوّل مع هذا العلكْ إلى واجهةٍ شبه أيديولوجية، هي الغذاء الذهني للوهم الأكبر، وهم أننا نعيش في دولةٍ ذات قوانين "دنيوية"، "زمنية"، لا تحتاج إلى أكثر من ميلَيْن أو ثلاثة لتبلغ مبلغ الدول العلمانية، فكانت تلك الثرثرة ذات الشعبية والذيوع، من نوع "الطائفية مرض بغيض"، "الطائفية غريبة عن تراثنا"، "بالاتحاد تُبنى الأوطان" .. لم يبق زعيم طائفي، نائب انتخب بقوانين الطوائف، أو "شخصية" تصبو إلى مكانة واحد من هذين الاثنين، إلا نطق بهذه الجواهر، كرّرها من عليائه. وما زالت أصداء "إلغاء الطائفية السياسية" تصمّ الآذان، أطلقها عتاة الطائفية المذهبية من بين أصحاب هذه الغلَبة. 

لكل طائفة "راع" خارجي، عربي وغربي، يدعم زعيمها، طمعاً بموطئ قدم له في هذه البقعة الجميلة الاستراتيجية

ما سهّلَ مع الوقت ذيوع سلوكيات خاصة، لا تجدها في أمم أخرى، أو تجدها ولكن بعيارات ضئيلة، بالكاد تلْمسها. سلوكيات انتحال الصفة، تحوّلت، بفضل المثابرة عليها إلى نوع من أنواع الحقيقة. يكون الواحد من هؤلاء في قلب أجهزة الدولة، يمثّلها، رسميا، يحلب خيراتها، يدمر قلبها وروحها .. ولكنه يتساءل، مذبّلا عينيه، غارقاً في الأفق البعيد: "أين هي الدولة؟"، أو "أين هي المؤسسات والقوانين؟"، أو "أين..." أي زاويةٍ أو أي ضلع أو أي كَبِد... ينتهكهم، ينهبهم القائل مائة مرة في النهار الواحد، خلال السنوات المائة التي مرّت على تأسيس الكيان. 

كان العزاء الكبير وسط هذا التسوّس أن لبنان بلد الجمال والحريات. ولكن حتى هذه النغمة كانت مبنيةً على وهمْ. عن الجمال أولاً: من يحمي هذا الجمال؟ أو يحمي نفسَه بمجرّد جماله؟ انظر إلى الأنهر التي طُمرت، والجبال التي نُخرت، والأشجار التي اقتُلعت، في عمليةٍ مديدة، بطيئة حينا، سريعة أحياناً؛ بحيث صرتَ تحتاج إلى مصور ماهر تجيد عدستُه التقاط الإطار الصالح لنقطة جماليةٍ ما، محاطةٍ بالخرابة والنفايات والعمار العشوائي. ولكن في وسعها أن تغش السائح أو المغترب للمجيء إليها وصرف أمواله في خزينتها. ومع تحوّل هذا الجمال إلى مجرّد كادر غشّاش، مغشوش، وانكشاف التشوّهات التي لحقت بجمال لبنان، أخذت السياحة الرابحة منحىً آخر، وصرنا ننادي على نسائنا بالسكين، ونسخِّر نساء جيراننا اللاجئات للعبودية نفسها: السياحة الجنسية. 

الحرّيات الإعلامية والفكرية والفردية التي لطالما تغزّل بها العرب، وبعض الغرب المنافق المصرّ على مواطئ قدمه القديمة. الحرّيات الإعلامية خصوصا، من كان يموّلها؟ من كان يديرها عبر هذا التمويل؟ عرب يرون في لبنان الساحة المثالية لتصفية حساباتهم مع منافسيهم أو أعدائهم... أو، وبنطاق أقلّ اتساعاً، حكومات غربية وجدت في لبنان ضالّتها الأكيدة لترويج أفكارها الجديدة، المتعثرة في بلدانٍ أقل "انفتاحاً"؛ فتريح ضميرها بممارستها الإحسان الفكري، وتوسّع مجالها الحيوي، ونحتفل نحن بحرّياتنا، مثل الجميلة البلهاء التي صدّقت مدائح الذئب الساعي إلى افتراسها. 

الأوهام اللبنانية تغذّت ببعضها، اختلطت بوقائعها، وولدت أوهاماً أخرى؛ لم يستطع أن يقاومها شعب ذو مصالح أو تطلعات مختلفة

وكان يجب أن يتوّج ذلك كله بالفن والثقافة والغناء. انظر إلى تطوّر هذه المجالات، بالتوازي مع نمو الأوهام. الرحابنة الذين أمدّوا الأوهام بالذخيرة البديعة، بمسرحياتهم وبنجمتهم فيروز. ثم أنظر إلى تمرّد ابنهم البار زياد: وقد خلع الأوهام تباعاً. وكانت آخر مسرحياته، "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، رسالةً تنبؤية، إننا لو بقينا سائرين على منهج التشبيح والتفنيص والتمسك بالأوهام، فسنعود إلى السكن في الكهوف، لابسين جلود الحيوانات، حاملين العصي المسنّنة؛ وهذا هو المشهد الأخير من المسرحية التي لم تعجبنا وقت صدورها، عام 1992، أي بعد انتهاء الحرب الأهلية. إذ كنا متمسكّين بوهم أننا الآن، أي وقتها، داخلون في مرحلة سلام وازدهار وبحبوحة .. إلخ... المعطوف على الأوهام الموروثة عن أزمان سبقتها.

شعوب أخرى أسّست كياناتها على أكثر من الأوهام؛ على أسطورة، على شخصية استثنائية، على انتصاراتٍ عسكرية، على حدث "تأسيسي"، على فكرة، على ثورةٍ ساحقةٍ ماحقة، على سرقة أرضٍ وإبادة شعب. ولكن الفرق بين المائة عام من الأوهام اللبنانية وبقية القواعد التي أسست لكيانات أخرى أن الأوهام اللبنانية تغذّت ببعضها، اختلطت بوقائعها، وولدت أوهاماً أخرى؛ ولم يقاومها، لم يستطع أن يقاومها شعب ذو مصالح أو تطلعات مختلفة، فهاجر معظمه، ومن بقي كان عليه أن يتواطأ معها. ثم كانت ضيّقة المجال، قليلة الثراء والمساحات، غير محظوظةٍ بجيرانها، الإسرائيليين منهم والسوريين، شحيحة الموارد أيضاً بمفكريها، وكتابها ومبدعيها، على الرغم من الذيوع والتسويق والشهرة، العالمية أحياناً. بحيث أنه، لو كانت الظروف مختلفة، لو لم تحصل الثورة الإسلامية في إيران مثلا، أو حدث شيءٌ أكثر زلْزلة منها، لكنا شاهدنا ممْسكين آخرين بالوضع اللبناني، غير الشيعية السياسية، غير حزب الله، ولكن دائما بمشروع برّاني. كان البرّاني ربما أبعد من إيران أو أقرب منها..