لبنان... خواطر عن الثورة ومنها

لبنان... خواطر عن الثورة ومنها

13 نوفمبر 2019
+ الخط -
اقتربت الثورة اللبنانية من شهرها الأول، شهر ستليه شهور أخرى، وهو عمر قليل يسير في أعمار الثورات، وليس إلا شرارة الانطلاق والاندفاع أو ربما أقل.. ولست هنا بصدد تقييم ما جرى خلال الأيام الماضية، عن أداء الثوار وعن إنجازاتهم، عن تعنت الطبقة السياسية، ومحاولاتها التنصل من الطلبات المحقة للجموع الثائرة، إذ يكثر الحديث حول هذه القضايا والحيثيات، إذ نحن نعيش في بلدٍ يقتات أبناؤه على السياسة، وتخرّج أحياؤنا ووسائل تواصلنا محللين كل صبحٍ ومساء.

ولكنني في هذه التدوينة أسجل مجموعة من الخواطر التي تأتيني على حين غرة، خواطر وأفكار من رحم هذه الثورة، ولا أدعي - إذ أكتبها - أنني ذلك "الثوري" الذي لم يبرح الساحة، ولا من الذين استطاعوا تحريك الجماهير أو تذكية روحهم الثورية، بل كاتب هذه السطور - وبكل تأكيد - يعيش الهموم التي حركت الآلاف الهادرة، يشاطرهم الألم جراء فساد قد دقّ أساسات الوطن، ويطمح مثلهم إلى غدٍ تكون فيه الشمس أكثر إشراقًا، لا لتغيّر بها وبأشعتها، ولكن جراء تغيير حقيقي تمّ بعد طول انتظار.

لا ريب أن أيام الثورة تمرّ بوقع مختلف قليلًا، فبالنسبة لمن هم في صف الثورة، فهم بين متابع لمجريات الأحداث، يتلهفون لسماع كل جديد، ومتابعة كل حدث، حبسهم عن الساحات والميادين عملٌ أو اهتمام بعائلة وأطفال، أو مرض أو سفر، يعيشون الثورة بكل ما في جوارحهم.


أما الصنف الثاني فهم جوهر الحراك وصناع الإرادة، يملؤون الساحات والشوارع، يهتفون ويعيدون ترداد الهتافات والشعارات، هم وقود الثورة ومحركها الرئيس، من يظل معتصمًا لا يبرح مكانه، ومن يمر سويعة أو أكثر يعبئ نفسه من معاني العزة والكرامة ثم يؤوب إلى شغله وما يحبسه عنهم.

أما من هم على المقلب الآخر من الثورة، يعارضها أو يرى فيها استهدافًا لمصالحه أو وجوده، فلن أدخل في طيات أنفسهم، ولن أصف أحوالهم مترقبة كانت أم متوجسة، ولكنهم بكل تأكيد يريدون لهذه الثورة أن تنتهي بأسرع ما يمكن، خاصة تلك الطبقة المستفيدة والموغلة في الفساد.

وفي إطار الوقت أبانت العديد من الفعاليات الثورية اكتساحها وحجم التأييد لها، فمن "زمر إذا كنت مع الثورة" التي أشعلت سيارات صيدا، إلى مشاركة أواني المطبخ في كل مساء في فعاليات "قرع الطناجر" في مختلف المدن والقرى، وغيرها.. وهي أفكار تؤكد أن السواد الأعظم من اللبنانيين يؤيدون الثورة، بل ويطمحون للمشاركة فيها، مهما كانت هذه المشاركة رمزية، لو لم تتجاوز بضع دقائق من "القرقعة".

هذه المشاركة التي وصلت إلى المنازل، تعيدني إلى نقطة جوهرية، حول مشاركة المرأة الفاعلة في الثورة، التي أبانت عن وعي وتقدم كبير، وكم كانت مشاهد وجود "الصبايا" في الصفوف الأولى خلال المسيرات أو في قطع الطرقات نموذجاً عن وعي لا يمكن التغاضي عنه، وأقول إن هذه المشاركة هي العمود الفقري للثورة، من الاحتجاجات الأولى، وصولًا إلى مسيرات الطلاب في مختلف المناطق والأراضي اللبنانية، وقد شاهدت عيانًا نساء وفتيات من مختلف البيئات والطبقات يشاركن ويهتفن، يطلقن المبادرات ويقدن الحراك، ما ينفي الكثير من النمطية المقززة التي أُلصقت زورًا وبهتانًا بنساء وطننا.

وأظن أن جميع ما سبق يقودني إلى خاطرة بالغة الأهمية، هي عودة الإيمان بهذا الوطن، والشعور الحقيقي بالانتماء إليه، وقد طالعت العديد من المنشورات لشبابٍ يؤكدون فيها شعورهم بالوطنية للمرة الأولى في حياتهم، وأن هذه الثورة أعطتهم الكثير الكثير، فأصبحوا يرون لبنان من منظور مختلف، يبتعد عن المحسوبية والمحاصصة والواسطة والفساد، وطنٌ يمكن لهم أن يشاركوا فيه بعيدًا عن العنصرية والطائفية، وطن ينتمون إليه حقيقة، قبل الانتماء إلى الزعيم أو الحزب، وهو شعور لا يجب أن يظل آنيًا، بل يجب أن يعزز ليكون واحدًا من أبرز محفزات الاستمرار في وجه تسويف ومماطلة الطبقة السياسية.

آخر ما أودّ إيراده من خواطر هذه الثورة يتمحور حول "الخوف"، نعم هناك حملة تخويف مستمرة نجدها على ألسنة السياسيين وفي تحليلات المتخصصين، وبين كلمات المتابعين والصحافيين، يظهر الخوف على أنه الفوضى حينًا، أو التحذير من الحرب الأهلية أحيانًا أخرى، أو إنزال شارع في مقابل شارع، أو انهيار الاقتصاد وغلاء الأسعار، أو أو أو..

كثيرة صور الخوف التي يُراد لنا أن نعيشها، بل وأن نقتنع بها، لنجهض بأنفسنا ما جرى خلال الأيام الماضية، لا أقول بأننا لا يجب أن نخاف، فكلٌ منا له أسبابه الكثير ليخاف، فنحن جيلٌ خرج ذووه من الحرب محطمين، فكانت نصائحهم خائفة دائمة، "ما تعلق مع حدا" و"ما بدنا مشاكل الله يرضى عليك"، خوف من عودة الاقتتال وخوف من انتفاء الحياة الكريمة، وأنواع أخرى عشناها طيلة الثلاثين عامًا الأخيرة.

ولكن ما هي المحصلة من تجرع كؤوس الخوف طيلة هذه السنوات، غير سكرنا بهذه الطبقة الفاسدة التي رانت على قلوبنا وامتصت مقدراتنا، ونحن نتلذذ بهذا الخوف الموروث، وها أنا أكتب هذه الكلمات فيما أطالع أخبارًا عن ارتفاع أسعار منتجات وعن فشل في حكومة يؤلفها فاشلون... بلغنا نقطة لا عودة عنها، فالعودة ليست مراجعة حساب بل هي انكسار لأحلام جيل، وعودة إلى بعبع الخوف، ولكنه خوفٌ سيكون أسوأ من أسوأ كوابيسنا..
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".