لبنان.. تابوهات الأبواب المغلقة

لبنان.. تابوهات الأبواب المغلقة

09 اغسطس 2015

الوزير اللبناني رشيد درباس.. يدافع عن بقاء المستور

+ الخط -
غضب وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني، رشيد درباس، لرشق سيارته بالنفايات من مواطنين نزلوا إلى الشارع للدفاع عن أبسط حقوقهم في بيئة نظيفة وصحية. أغضبت النفايات الوزير، بعدما لمست سيارته، وأفسدت مزاجه وأهانت كرامته. لم تزعج الوزير ولم تعكر صفو مزاجه قضية الشاب طارق الملاح الذي تجرأ على مواجهة أشد النفايات الاجتماعية صلابة وأكثرها عفنا: نفايات التابوهات الاجتماعية التي تريد أن تخرس الملاح وأمثاله ممن يتجرأ على كسر حاجز الصمت، ليفضح ما يجري خلف الأبواب المغلقة. 
لم يوفر الوزير وسيلة للضغط على الشاب لإسكاته، إذ رد على ادعاء الملاح بأنه تعرض للاغتصاب في دار الايتام الإسلامية قبل أن يفر منها، بالتصريح إن عليه أن "يستر عورته" بالسكوت عما جرى له. لا يكتفي الوزير بتحويل الضحية المفترضة إلى معتدٍ، بل يهدد بأن "يأخذ حقه" من الشاب، وينعته بأسوأ الألفاظ، معتبرا أنه ورفاقه، الذين رشقوا سيارته بالنفايات، "أوسخ من الزبالة"، ويدعي عليهم، لينتهي الأمر بالمجموعة في توقيف غير قانوني. المفارقة أن ما يقوم به الوزير يؤكد حجة الملاح، بعدما لم يشعر الوزير المسؤول (نظرياً) عن حمايته وحماية أمثاله بأي حرج في ممارسة كل أشكال الضغوط لإسكاته، والحؤول دون خروج شهادات مماثلة.
كيف يمكن لأي مسؤول، أو رجل دولة، أن يُطالب مواطناً علناً بالسكوت عن حقه بالوصول إلى العدالة في قضيةٍ، كان من شأنها أن تثير لدى الوزير همة العمل، للكشف عن ملابساتها عبر المبادرة إلى فتح تحقيق شامل وشفاف، في دور الأيتام، وما يجري خلف أسوارها من تعنيف لأطفال متروكين لأقدارهم التعسة التي لا تثير اهتمام السياسيين، ولا الإعلام.
أنجز طارق الملاح ما لم يجرؤ عليه أحد من قبل. كسر حاجز الصمت عن أحد أبرز التابوهات الاجتماعية: اغتصاب أطفال أيتام فقراء ومهمشين على يد من يفترض أنهم حلوا محل العائلة المفقودة. وتجرأ ثانياً، هو ومحاميه نزار صاغية، على نقل القضية من حيز الجدل الإعلامي إلى مجال القضاء، حيث يفترض أن مؤسسات تقوم بمهامها في التحقق من الادعاءات، وملاحقة المعتدين ومعاقبتهم، إذا ما تبينت صحتها. ما فعله طارق الملاح، ثالثاً، أنه فتح الباب أمام علنية الجدل حول قضايا يخاف الضحايا، قبل المعتدين عليهم، من تداولها: من الاعتداء الجنسي على الأطفال إلى زنا المحارم إلى العنف العائلي والزوجي وغيرها من أشكال العنف التي يفترض بالضحية أن تسكت عنها، لأنها، في نظر المجتمع، المسؤولة أساساً عنها.
شهدت بريطانيا، في الأعوام الثلاثة الفائتة، سلسلة من فضائح اعتداء على أطفالٍ، طاولت أعلى المستويات في السلطة. شجع التناول الإعلامي الواسع لها على تزايد الشهادات عن حالات اعتداء جنسي على أطفال، وصولا إلى مزاعم حول حالات اعتداء تاريخية لشخصيات بارزة في النظام. كان آخرها الشكوك حول تورط رئيس الوزراء البريطاني السابق المحافظ، إدوارد هيث، في جرائم اعتداء جنسي على أطفال. ويعتبر هيث الشخصية السياسية الأبرز التي تطاولها مزاعم بالاعتداء الجنسي على أطفال، بعدما تم تداول مزاعم حول اعتداءات مماثلة، في وسائط التواصل الاجتماعي، ضد 24 مسؤولا سياسياً، حالياً أو سابقاً، بينهم ثلاثة نواب على الأقل.

ويواجه العضو في مجلس الأعيان البريطاني، اللورد جانر، محاكمة بتهم اعتداء على أطفال في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. وقد طلبت المحكمة التي نتظر في القضية من رجل السياسة المثول شخصياً في أثناء الجلسات، على الرغم من تردي حالته الصحية لاصابته بمرض الزهايمر. وكانت ادعاءات حول اعتداءات جنسية على أطفالٍ، طاولت أيضاً، أخيراً، إحدى أبرز المؤسسات الخيرية في بريطانيا التي تعنى بالأطفال المهمشين (شركة الأطفال أو كيدز كومباني) بعدما اتهم موظفون سابقون الإدارة بالإهمال في التعاطي مع حالات اعتداء جنسي على أطفال.
أطلقت حملات تحقيق متتالية، في الأعوام الثلاثة الأخيرة، في قضايا عديدة، منها مزاعم عن وجود عصابة لاستغلال الأطفال جنسياً، ذات علاقة بالحكومة ومزاعم حول عصابة تضم وجوها اجتماعية مرموقة، قامت بعمليات اعتداء متواصلة على أطفال فقراء في السبعينيات والثمانينيات في وسط لندن. وقد أثار التداول الإعلامي الواسع لهذه القضايا، في الإعلام التقليدي والحديث، ضغوطا على الحكومة التي أطلقت، أخيراً، تحقيقا واسع النطاق حول الاعتداءات الجنسية على الأطفال في بريطانيا. وسوف يكون على عملية التحقيق الواسعة التي تقودها القاضية لويل غودارد أن تتحرّى عن مدى انتشار الاستغلال الجنسي للأطفال في البلاد، وما إذا كان هنالك تغطية سياسية ما لهذه الجرائم. وقد دفع العدد الكبير من هذه الحالات وتداولها في الإعلام شخصيات مرموقة إلى اتخاذ مواقف شاجبة، منها لأسقف كانتربري، كبير أساقفة كنيسة انكلترا، الذي تعهد بالتحقيق في الانتهاكات الجنسية في الكنيسة.
إنه الحق بالشفافية والكشف عن "المستور" الذي يدافع الوزير اللبناني، رشيد درباس، عن بقائه، وهو حق الضحايا بالاعتراف بمعاناتهم ومحاسبة المسؤولين عن ارتكابها، حتى ولو باتوا من التاريخ. ساهمت التغطية الإعلامية الكبيرة في وسائل الإعلام البريطانية في تشجيع الضحايا على الإدلاء بإفاداتهم، والخروج عن صمتهم، كما ساهمت في كسر مقولة العيب في التعاطي مع قضايا من هذا النوع. وهي مقولة تساهم، أساساً، في استمرار المعتدي في ممارسة اعتداءاته، مستفيدا من ضعف الضحايا وتواطؤ النظام. تطلب الأنظمة التي تحترم مواطنيها منهم أن يتكلموا من دون خشية، ويريدنا الوزير درباس أن نعض على الجرح ونخرس. تحية لطارق الملاح.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.