لا مكان في بيت والدي*

لا مكان في بيت والدي*

21 يوليو 2015
لوحة للفنان الفرنسي أندريه ديموناز André Deymonaz
+ الخط -
تعود ذاكرتي إلى ذكرى صبية في سنتها الخامسة أو السادسة، وهي تقرأ كتابها الأوّل: لقد عصفت بها الريح إلى هذا البيت في القرية، وفي يدها رواية استعارتها من المكتبة المدرسية. ومن دون أن تُقبّل والدتها في المطبخ، اندفعت إلى غرفة نوم والديها: انبطحت فوق هذا السرير الذي بدا لها ضخمًا. (أمامها، في عمق المرآة القديمة العالية، يمكن أن ترى نفسها صبية مختلفة).
منبطحة، جاثية، بعد أن رمت حذاءها من قدميها، فتحت الكتاب وبدأت تقرأ: كما نشرب أو كما نغرق في الماء، نسيت الزمن، والبيت، والقرية، وحتّى صورتها المنعكسة في عمق المرآة.
حين كانت تقرأ، اتخذت هذا القرار: "لن أتوقّف إلا عند الصفحة الأخيرة".
بعد ذلك بقليل، بدأت تبكي من دون أن تدري، بصمت في البداية، ثم بشهيق راح يهزّها ببطء. سمعت والدتها، التي كانت في المطبخ تحضر طعام ساعة العصر كما في كلّ يوم، هذا اللحن المحزن المنتظم الذي يحدثه الشهيق. فأسرعت وهي قلقة، واقفة ثابتة أمام العتبة، بدأت تتأمّل طفلتها المنكسرة، إن صح القول، التي كانت تتابع القراءة بشراهة رغم كلّ شيء.
المرأة الشابّة ذات الأربع والعشرين سنة - الأميّة باللغة الفرنسية، وتعرف اللغة العربية فقط - حاولت أن تتخيل أي عوائق، وأي أعداء لصغيرتها في المدرسة.
- "ماذا حدث في الفصل؟". سألتها بحزن.
من دون أن ترفع رأسها، ومن دون أن تمسح وجنتيها، وبمظهر فضولي متلهف، رجفت الطفلة باضطراب مجدّدًا. وراحت أصابعها تقلّب الصفحات بحيوية:
- "لا شيء. أنا أقرأ، ماما". وضحكت الطفلة الباكية، بفخر ولذة.
هكذا، وللمرّة الأولى، تتأثر الصبية - تأثّرتُ - بالحياة القريبة، الحسيّة لكائن آخر، بطل القصة الذي لا أسرة لديه، مثلما تخيّله "هيكتور مالو".
صبي صغير فقد والديه: بكت الصبية أمام هذه الفاجعة، وهي متحجّرة في سرير والديها الواسع، والمصنوع من خشب الأكاجو، الذي كانت في ما مضى تطالب بنقلها إليه، وهي نصف نائمة في سريرها الصغير المجاور، كي توضع بين والدها ووالدتها. كانت تتكوّم على نفسها في وسط السرير، ملتصقة بهما؛ فيما كان حديثهما يحوّم من فوق جسدها.
كانا يتناوبان على ملاعبتها الواحد بعد الآخر، هل كانا يلهوان معها؟ تتذكّر ذلك بصعوبة. لكن، لكم كانت تشعر بالسعادة وهي بينهما، في صباحات تلك الآحاد، حيث كان والدها يبقى خاملًا، بينما الوالدة تنتهي بالذهاب إلى المطبخ لتحضير وجبة الفطور.
تتذكّر (أنا أتذكر) بأن والدها كان يقرأ بعد ذلك جريدته؛ فيما الوالدة تشغّل الراديو- "راديو الجزائر، القناة العربية"- باعتبارها مستمعة متحمّسة للموسيقى العاطفية المصرية أحيانًا، وأحيانًا أخرى للأغاني الحزينة باللهجة المحكية الجزائرية.
ماذا عن دموع الطفلة - الثانية - التي أثارتها تلك القراءة الأولى؟ سنين عديدة بعد ذلك، ستتساءل هل أخذت تلك الدموع السابقة الذكر عذوبتها من سرير الوالدين الذي رمت نفسها عليه، فيما صبيُّ الكتاب لا يعرف راحة ولا ملاذًا في أحزانه طيلة الصفحات المقلوبة؟
حاولت أمي تهدئتي، بعد تردّد طويل أمام الباب:
- لا تبكي. تعالي لتناول وجبة العصر في المطبخ.
قلتُ وأنا في خضم تقلبات القصة:
- "ألا ترين إنني أقرأ؟". أجبتها من دون مراعاة سكينتها الروحية.
لا أعرف هل مسحت دموع عيني؛ لقد كان من المتعذر محو متعة الدموع اللاذعة تلك.
هل ألحّت الأم الشابة؟ وهي تحلم، اضطرت إلى الابتعاد: "هكذا إذن؟ تقرئين أشياء حزينة، تدفع إلى البكاء، لكن من غير حزن حقيقي". قالت وهي تكتشف هذا اللغز.
هي نفسها تحب أحيانًا أداء أغنيات أندلسية؛ لقد نقلت كلماتها بعربية مرهفة. هي المرأة الوحيدة في القرية القادمة من مدينة. وكان عليها أن تشعر بالوحدة، فقد وجدت نفسها مسجونة في هذه الشقّة في سكن مخصص للمعلمين.
كانت الألحان المتصاعدة بشكل لولبي، والجمل المتأنقة في الأغاني القديمة التي تترنّم بها، إن لم تحدث داخلها الحزن بشكل مفاجئ، فقد كانت على الأقل تمنحها ذلك الإلهام الحزين القديم.
بعد أن تأمّلتني وأنا أبكي- وكتاب المكتبة مازال مفتوحاً أمام عيني-، حافظت والدتي، وهي تتجه نحو المطبخ، من دون شك على جسر هشّ بين الحساسية الزائفة التي أثارتها داخلي تلك القصص الغربية، والجمال الخفي الذي وجدته منقطع النظير، والموجود في الشعر الأندلسي الذي كانت تترنّم به بانفعال.

* مقطع من السيرة الذاتية لآسيا الجبّار
ترجمة محمود عبد الغني
(مترجم مغربي)

المساهمون