لا حراك في الضفة
لا يساورنا أي شك في أن إرادة الكفاح لا تزال كامنة في أعماق المجتمع الفلسطيني في الضفة. لكن المشهد، الآن، في هذا الجزء من فلسطين، يخلو من أي حراك شعبي لافت، ضد الاحتلال، على الرغم من جسامة الممارسات الاحتلالية وغلظتها، وخطورة المشروعات الاستيطانية وتسارع عملية تهويد القدس وخنق حياة أهلها. وترتسم، الآن، مفارقة لافتة، إذ تخرج الجماهير في قطاع غزة المنكوب، في تظاهرات حاشدة للتضامن مع القدس. فماذا عن الضفة وشعبنا الأبي فيها؟
كثيرة أسباب هذا الهجوع الذي لا يُعلل بأن الناس استنكفت عن نُصرة قضيتها. فإن كانت المقاومة بالسلاح، تتطلب نسقاً ومناخاً مواتياً وانفتاحاً على قنوات إمداد، وهذه كلها عناصر لا تتوافر؛ فإن المقاومة الشعبية تتطلب بيئةً سياسيةً، تساعد على تخليق عناصرها، من حيث هي ردة فعل اجتماعية شاملة، وهذه لا تتوافر أيضاً. ويُردُّ غيابها إلى العامل الذاتي في الكيانية الفلسطينية القائمة، لا في العامل الموضوعي الخارج عن إرادة الفلسطينيين!
كأنما الغرض من تكرار الحديث عن المقاومة الشعبية، أو المقاومة السلمية، هو مجرد التأكيد على رفض الكفاح المسلح، باعتباره عنفاً محفوفاً بالمخاطر. هذا ما يريده القائلون، في كل يوم، إن خيارنا هو المقاومة السلمية، وهي تعادل في سياقهم سلميّة العيش وتحاشي استثارة الوحش. بالتالي، لم يضيّعوا دقيقة واحدة من وقتهم، للتفكر في خيار المقاومة الشعبية، أو السلمية التي شرطها الأول إقامة الجسور مع المجتمع، وإقناعه بأن هناك قيادة حسمت أمرها، وجعلت المقاومة الشعبية خيارها ووسيلتها، وبرهنت على صدقيتها، وعلى جدارتها في أن تكون طليعة، لها برنامج تنخرط في تطبيقاته اليومية، فيجتمع من حولها الناس، ويلتزمون برنامجها، ويحسون، بالملموس، بأن أولويات الصرف المالي، وأكلاف حياة "الطليعة" ذات حيثيات تليق بالكفاح الوطني. ذلك لأن المقاومات السلمية، وسياقات اللاعنف الذي يدفع في اتجاه الاستقلال والحرية؛ لها فلسفتها ومرجعياتها التاريخية، وليست "طق حنك". إنها تتطلب بُنية رصينة للحركة الوطنية ولثقافتها، ونمط حياةٍ ينم عن إرادة وطنية، تبدأ بالانتصار على النفس، وبتخليص النخبة التي تحكم باسم المشروع الوطني، من عيوبها، أو إحالة هذه النخبة ذات نمط الحياة المختلف، إلى متحف الرزايا.
قبل أشهر، كان المشهد في الضفة يخلو من حراك، إلا وقفات أسبوعية في بلعين، يقوم عليها ناشطون أجانب مع بعض الشُبان. اليوم، لا حراك سوى وقفات غضب لأولادنا الصغار، عند مداخل المخيمات. ويأخذنا التأمل في تلك الوقفات إلى نافذة الإطلال على السبب السوسيولوجي لهذا الاستثناء، وإلى التدقيق في شكله وفي طبيعته. فهو ليس مقاومةً سلميةً وجزءاً من حراك اجتماعي شامل، بقدر ما هو زفرات غضبٍ لدى شرائح اجتماعية مهمشة، تسجل احتجاجها ساعتين، في كل اتجاه وعلى كل شيء، وليس لها طليعة سياسية، ولا خطّ مرسوم.
يلاحظ واحدنا أن ما يطغى أو يطفو على السطح، في مدينة رام الله، هو انشغال تلك الحاضرة بأمور أخرى. مشروعات بناء وسوق عقارية ومقاه مترفة، وأعراس في المساء تضاهي أعراس الغرب المترفة، وإعلانات شركات الهاتف الخلوي التي تبشر بجوائز وحظوط "تفلق الصخر"، على نحو ما كُتب بخط كبير في إعلانات راهنة. وفي الثنايا، تُدعى النُخب الثقافية المهمشة إلى ندوات ضئيلة الحضور، أو إلى أمسيات شعرية، يحضرها أنفار، تحل ضيفة على منظمات غير حكومية ممولة من الخارج، توفر القاعة والعصائر، لتبرير وجودها. إن كل ما يتصدر مشهد الحياة، هنا، يلفق تعارضاً بين مصالح طبقات وشرائح، من شعب موحد الوجدان. وليست العلة في الناس، فالناس هم الدواء الشافي لا العلة. إن القدس تُهوّد، الآن، والاستيطان يستشري، ولا حراك.
adlishaban@hotmail.com