لا ترموا بلاكم على الفقراء!

لا ترموا بلاكم على الفقراء!

20 اغسطس 2018
+ الخط -
الناس على دين جنرالاتهم، ولذلك لا تتعجب إن وجدت من تعلم أنه يكمل الشهر بالعافية، ويتهرب من رد ما اقترضه منك، وقد تقمص دور رأسمالي عتيد، وكتب على حسابه الشخصي "تنهيقات" يهاجم فيها الفقراء ويقوم بتحميلهم أسباب الانحدار الاقتصادي للبلاد، فتلك موضة هذا الزمان، الذي تفرض السلطة القمعية فيه منطقها الذي يعتبر الفقراء آفة معطلة للتقدم، بعد أن لم تعد محتاجة إلى تمجيدهم بأنهم ملح الأرض وطمي النيل وأحباب الله ونور عين القائد، فقد أصبحت الآن ترى أن حل أزمات البلاد سيبدأ بجعل الأغنياء أغنى، لكي يفيضوا بما لديهم من خير على غيرهم، وهو منطق معوجّ تم فرضه كثيراً من قبل، وصفّق له الملايين، بما فيهم الفقراء أنفسهم، أملاً منهم في خلاص قريب، لم يأتِ أبداً.

في كتابه (23 حقيقة يخفونها عنك بخصوص الرأسمالية)، يبرع ها جوون تشانج الباحث الكوري الجنوبي المرموق في فضح هذا المنطق الوهمي، وغيره من الأوهام المرتبطة بما يسمى اقتصاد السوق، والتي تخطت الأنظمة العربية مرحلة الترويج الحنون لها، إلى مرحلة فرضها بالحديد والنار، ولعل ما يزيد كتابه أهمية وتأثيراً لدى بعض "النافخين في زبادي المناهج الاقتصادية"، أنه لا يعتبر كتابه بياناً لمناهضة الرأسمالية، التي يعتبرها برغم كل مشاكلها "أفضل نظام اقتصادي"، وهو أمر يقبل الاختلاف فيه وحوله، لكنه يوجه كتابه لمناهضة نسخة بعينها من الرأسمالية هيمنت على العالم في العقود الثلاثة الماضية، هي نسخة الرأسمالية التي تُبنى على كذبة حرية السوق، لأن لكل سوق بعض القواعد والحدود التي تقيد حرية الاختيار، لكن أصحاب المصالح يخفونها عن الناس، في حين يروِّجون لأوهام، تتحول مع الوقت إلى عقائد شعبية تضعف ثقة الناس بأنفسهم، فيسلمون قيادهم لمن ينهبهم ويديم عمر مآسيهم.

"لو عمل فقراء بلادنا كاليابانيين وحافظوا على الوقت كالألمان، وكانوا مبتكرين كالأمريكان، لصارت بلادنا غنية"، في هذه الكلمات يلخص تشانج ـ صاحب كتاب (السامريون الأشرار) الذي سبق لي الكتابة عنه من قبل ـ مجمل الرؤية الشائعة التي تغفل حقيقة أن فقر أي بلاد يجب أن يتحمله في المقام الأول أغنياؤها، الذين كان يجب عليهم بدلاً من لوم فقراء بلادهم، أن يدركوا أن إنتاجية الأفراد في البلدان الغنية تكون أكثر بسبب طبيعة النظام المطبق فيها، وليس بسبب طبيعة الأفراد ووجود قدرات خارقة لديهم، حيث لا يتفوق الأشخاص في البلدان الغنية مئات المرات إنتاجياً على نظرائهم في البلدان الفقيرة لأنهم أشطر وأفضل تعليماً، بل لأنهم يعيشون في اقتصادات بها تقنيات أفضل ومؤسسات أفضل وأكثر تنظيماً وبنية تحتية مادية أفضل، وكلها عوامل أنتجتها الأفعال الجماعية عبر الأجيال.


لذلك حين يدعم الأغنياء في البلدان الفقيرة بقاء أنظمة فاسدة في مواقع الحكم وأوضاع سياسية واقتصادية خاطئة، يستفيدون منها وحدهم، فهم الذين يتحملون في الحقيقة استمرار تخلف بلادهم بنسبة أكبر بكثير من غيرهم، ولن ينجيهم من تلك المسئولية ترديدهم الببغائي لأسطورة أن "ترك الأسواق في حالها دون تدخل أو ضبط، سيجعل الجميع يتقاضى المقابل الصحيح والعادل وفقاُ لقيمته"، لأنهم بذلك يسقطون من الحسبان الطبيعة السياسية للسوق والطبيعة الجماعية للإنتاجية الفردية، والتي تجعل بناء مجتمع أفضل مرتبطأً بالتركات التاريخية والأفعال الجماعية، وليس فقط بالمواهب الخاصة والجهود الفردية.

يرفض ها جوون تشانج الوهم الأكثر انتشاراً القائل أن جعل الأغنياء أغنى يجعل البقية أغنى، لأن الأغنياء طبقاً لذلك التفكير يستثمرون ويخلقون الوظائف، وعندما تعطيهم شرائح أكبر من الكعكة، قد تصبح شرائح الآخرين أصغر على المدى القصير، لكن الفقراء سيتمتعون بشرائح أكبر على المدى الطويل لأن الكعكة ستكبر، ويثبت تشانج في كتابه أن هذه الفكرة يجانبها الصواب في التطبيق، وأن ما يعرف باقتصاد التقاطر لأسفل ثبت أن أثره هزيل في الواقع العملي، فقد تباطأ النمو الاقتصادي في العالم منذ بداية سياسات الإصلاح الليبرالي المنحاز للأغنياء في عقد الثمانينات، "فمنذ أن أعطينا الأغنياء شريحة أكبر من الكعكة قللوا من إيقاع نمو الكعكة"، كما يؤكد أن ما يوصف بالتقاطر إلى أسفل لا يحدث إذا تُرك الأمر للسوق وحده دون أي دور للدولة، ويدلل على ذلك بالفرق بين ما يحدث في أمريكا وبين ما يحدث في دول الرفاه مثل السويد وهولندا، وهو فرق ليس في صالح أمريكا طبقاً لجميع الشهادات وبشهادة جميع الإحصائيات.


لذلك يرى تشانج أن الطريقة المثلى لتعضيد الاقتصاد هي إعادة توزيع الثروة إلى أسفل، إذ يميل أفقر الناس إلى إنفاق نسبة أعلى من مداخيلهم، وإذا كان البعض يعتقد أن جعل الأغنياء أغنى سيعود بالخير على بقية المجتمع، فعليه أن يربط ذلك أولاً بحمل الأغنياء على تقديم استثمار أعلى وبالتالي تحقيق نمو أعلى، من خلال سياسات إجرائية، مثل تخفيضات ضريبية للأغنياء أفراداً وشركات مشروطة بالاستثمار، ثم تقاسم ثمار مثل هذا النمو عبر آلية كدولة الرفاه.

في نفس السياق يكشف ها جوون تشانج بحكم أبحاثه المتخصصة في التنمية الاقتصادية أن أداء البلدان "النامية" في فترة التنمية بقيادة الدولة، كان برغم كل الملاحظات والمشاكل متفوقاً على ما أنجزته خلال الفترة التالية من الإصلاح المتوجه حسب سياسات حرية السوق، فقد نما معظم تلك البلدان بشكل أسرع بكثير، مع توزيع للدخل أعدل وأزمات مالية أقل بمراحل، وقبل أن يسارع المتنطعون لاتهامه بالتخلف عن ركاب العصر، يفند تشانج بالأرقام والتفاصيل وهم أن كل البلدان الغنية تقريباً قد أصبحت غنية من خلال سياسات حرية السوق، فالعكس تماماً هو الحقيقة، باستثناءات قليلة، فقد اغتنت بلدان اليوم الغنية، بما فيها بريطانيا والولايات المتحدة، موطنا حرية التجارة وحرية السوق، من خلال توليفات من السياسات الحمائية والدعم الحكومي وما إلى ذلك من السياسات التي أصبح البلدان ينصحان البلدان النامية بعدم تبنيها، في حين أن أغلب الدول الغنية لم تستخدم سياسات حرية التجارة وحرية السوق حين كانت هي أنفسها بلداناً نامية.

خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر بريطانيا التي كانت أكثر البلدان حمائية في العالم خلال وقت طويل من صعودها الاقتصادي، ولم تتبن التجارة الحرة إلا في عام 1860 بعد أن باتت هيمنتها الصناعية مطلقة، وبعد أن أقامت رخاءها على أساس سياسات تشبه تلك التي روجها ألكسندر هاملتون مهندس النظام الاقتصادي الأمريكي الحديث، والتي ترى أن الصناعات في طور طفولتها تحتاج إلى الحماية والرعاية الحكومية، ليتسنى لها الوقوف عند قدميها، وهو ما فعلته اليابان وفنلندا وكوريا الجنوبية حين قيدت الاستثمار الأجنبي تقييداً حاداً، حتى أن فنلندا اعتبرت المشاريع التجارية التي تزيد ملكيتها الأجنبية على 20 في المائة بوصفها مشاريع خطرة، وقامت فرنسا والنمسا وفنلندا وسنغافورة وتايوان باستخدام المشاريع المملوكة للدولة في الارتقاء بالصناعات الحيوية، ورفضت هولندا وسويسرا حماية براءات الاختراع حتى بواكير القرن العشرين، وعرفت هونج كونج بسمعة أسوأ في هذا المجال، وحتى سنغافورة التي تعرف بمواقفها المرحبة تجاه الاستثمار الأجنبي، ظلت تنتج ما يزيد على 20 في المائة من ناتجها عبر مشاريع استثمارية حكومية، في حين يدور المتوسط العالمي حول رقم 10 في المائة، وكلها أفكار وسياسات كما يقول تشانج لو تحدث عنها وزير مالية بلد فقير اليوم، لتعرض إلى نقد من وزارة الخزانة الأمريكية جراء هرطقته، ولرفض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وكافة المؤسسات الدولية ذائعة الصيت منح مليم أحمر لبلاده، حتى يتوب ويندم على ما اقترفت يداه ويعزم على ألا يعود إلى ما فعله أبداً.

نكمل قراءة الكتاب في الأسبوع القادم بإذن الله.

...

ـ 23 حقيقة يخفونها عنك بخصوص الرأسمالية ـ ها جوون تشانج ـ ترجمة محمد فتحي كلفت ـ دار بلومزبري مؤسسة قطر للنشر

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.