لأني لم أمت في الحرب
يبدو أن الأمر مريح للجميع، الآن، فلا صور للدماء ولا مجازر، ولا عائلات تُباد عن بكرة أبيها، لا أصوات للقنابل والصواريخ، ولا نساء تصرخ على أبنائها الذين يئنّون تحت الركام، لا شيء من قرطاسية الحرب باقية الآن، فلا شيء يستفز الكاميرات، للعمل في غزة، فقد توجهت إلى أماكن أكثر قابلية للتصوير، وإلى الموت السريع والمدهش والرخيص.
الأمر عكس هذا يا رفاق، ما نعانيه اليوم في غزة أكثر حُرقة ووجعاً من صور الأشلاء الممزقة والبيوت المهدمة، فمن قُتل في الحرب كان الفائز الأول والأخير، الوجع الآن لِمن تبقى على قيد الحياة من أهل الحظ السيئ، كما نحن!
عن ماذا أخبركم يا رفاق، عن حديد أسِرّة المشافي التي تبكي من يعتليها من جرحى، أم عن الأنين الخارج من بطن الشجر، أم عمن فقدوا النطق والقدرة على الكلام والسمع، من يهابون السير في الشوارع ورؤية السماء، هذا عالم آخر في غزة، شباب وشابات في عمر الزهور أصابهم اللوث العقلي مما شاهدوه أمامهم من فَقد أسرهم وأحبتهم.
عن ماذا أحدثكم، عن عشرات العائلات التي بلا مأوى، بلا حصيرةٍ ليريحوا عليها تعبهم، بلا غاز لكي يصنعوا بعض الشاي، يشربونه في لمَّة العائلة، لا مياه صالحة للشرب، ولا، وليس، ولا يوجد، ولم يبق...
وُلِدَ القتيل في موته من جديد، وطلَّق هذه الجغرافيا الصعبة العنيدة، فإن كان في الجنة مثواه فنعم الفوز، وإن كان في النار فلن يشعر بفرق كبير عن ما كان فيه قبل الموت في غزة.
أعلم أنني أثقل عليكم، وأنني أُنغص عليكم يومكم الجميل بهذه الأسطوانة المشروخة، التي أذكركم فيها. لا أطلب من أحد شيئاً. أنا فقط أكتب، وأحياناً أبكي، لأنني لم أمت في الحرب.
لحظة..
الوقائع أكثر مما يرد في الأخبار.