كي لا نسقط في باب السجن الذي هربنا منه

كي لا نسقط في باب السجن الذي هربنا منه

21 مايو 2019
+ الخط -
منذ بداية شهر رمضان هذه السنة وقعت ثلاث حوادث تستحق التوقف عندها. بداية من الاعتداء الذي تعرضت له طالبة في جامعة بوزريعة بالجزائر العاصمة لأنها كانت تفطر في نهار رمضان - في مكان معزول بالجامعة حسب الفيديو المتداول -، والاعتداء الذي تعرضت له شابة بالجزائر العاصمة لأنها كانت ترتدي لباساً قصيراً والتي نشرت صورها عبر فيسبوك وهي تسيل دماً، ثم التحريض والدعوات عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى قتل الباحث في الشريعة الإسلامية سعيد جاب الخير بعد تصريحه في قناة تلفزيونية أن الصيام اختياري وليس إجبارياً. كل هذه الاعتداءات التي أقدم عليها أناس، وإن كان الدافع بحسبهم هو الدفاع على حرمة رمضان، رافقها وإضافة إلى العنف الجسدي سب وشتم وقدح في أعراض الضحايا.

قد تكون هذه الحالات معلومة لنا لأنها وقعت في الجزائر العاصمة وتم تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن وفي كل سنة يقع عديد من الحالات الأخرى المماثلة، خصوصاً في شهر رمضان، من اعتداءات جسدية ولفظية على مفطرين، سواء من طرف رجال الأمن كما حدث مع مواطن بتيزي وزو عام 2012، وحتى متابعات قضائية تنتهي بالسجن كما حدث مع مواطن آخر حكم عليه بعام حبس نافذ بسبب تدخينه سيجارة في نهار رمضان بقالمة عام 2018، أو اعتداءات من طرف مواطنين على مواطنين آخرين كما حدث هذا العام. سواء تناقلتها وسائل الإعلام أم لا، الحالات المماثلة بالتأكيد عديدة وفي مختلف المناطق. فما الذي يدفع جزائريين لاستعمال العنف ضد مواطنين آخرين بسبب عدم التزامهم بالصيام ولرفض الاختلاف والمختلف عنهم، خصوصاً في المسائل الدينية؟

من الممكن أن يكون الاهتمام برمضان دون غيره من العبادات يعود للفترة الاستعمارية حيث كان الصيام هو ما يميز الجزائريين عن المستعمرين الأوروبيين، لذلك حرص الجزائريون آنذاك على هذه الشعيرة، كي تعيش الجزائر بعد الاستقلال مرحلة الحزب الواحد والفكر الواحد الذي استمر حتى بعد إقرار التعددية بعد أحداث أكتوبر 1988.


من المعروف أن الأفكار السائدة هي أفكار الطبقات المسيطرة، وكذلك كان الحال في الجزائر. فبهدف البقاء في السلطة وللترويج لاختياراته وتوجهاته ورجالاته، استغل النظام كل ما يمكنه استغلاله من مدرسة، وإعلام، ومسجد. فالمدرسة وبدلاً من أن تكون مكاناً للتنشئة الاجتماعية للأطفال والمعرفة والثقافة والتفكير النقدي حوّلها النظام ببرامجه إلى مكان لتكوين مشاريع أفراد خاضعين وأحاديي التفكير. أما الإعلام، فالعمومي بدلاً من أن يعمل على توفير خدمة عمومية للمواطن، حوّله النظام إلى مجرد آلة دعائية في يده، ونفس الشيء مع الإعلام الخاص، فبالرغم من تعدد عناوينه إلا أن مصدر تمويله كان الريع الذي يوزعه النظام كإشهار. وبالتالي، لم يكن يختلف في شيء عن الإعلام العمومي. كذلك كان الحال بالنسبة للدين بصفة عامة والمسجد بصفة خاصة. فالنظام اهتم بالدين ليس من باب الورع والتقوى بل من أجل استغلاله لأهداف سياسية، من كسب للدعم أثناء الانتخابات، والترويج والدفاع عن سياساته إلى الظهور بمظهر البطل المدافع عن الإسلام حينما يقبض على ذلك "العدو" الذي كان يهدد إسلام الجزائريين كما حدث مع مواطنين تمت محاكمتهم وتقديمهم على أنهم خطر يهدد الأمة فقط لأنهم أحمديون.

وهكذا رأينا عبد العزيز بوتفليقة يطوف على الزوايا قبل كل انتخابات وحذا حذوه وزيره شكيب خليل بعد عودته إلى الجزائر بعد اتهامه في قضايا فساد. واستثمار بوتفليقة لملياري دولار أميركي من المال العام لبناء مسجد لتخليد اسمه - وفي غياب الرقابة من طرف النواب والإعلام ما يمكن أن يتخلل ذلك من نهب وسلب للمال العام - في الوقت الذي تفتقر فيه مناطق من الجزائر إلى مستشفى وتموت فيه مواطنة في ورقلة العام الماضي بسبب لسعة عقرب. كما نقل لنا الإعلام في عديد من المرات تسريبات لتعليمات وزارة الشؤون الدينية للأئمة قبل كل جمعة للحديث على موضوع دون آخر ليس من أجل مصلحة الجزائريين، سواء في دينهم أو في دنياهم، بل فقط خدمة لمصالح النظام. إضافة إلى كل هذا، وخصوصاً بعد العشرية السوداء، فإن الجزائريين عاشوا الانغلاق على أنفسهم، سواء على المستوى الدولي أو حتى الوطني، فشساعة بلد يعد الأكبر مساحة في أفريقيا جعلت الجزائريين لا يعرفون حتى بعضهم البعض. كما أن النظام عمل على منع وإسكات كل صوت وكل فكرة حرة وكل فكرة تخالفه بترسانة من القوانين القمعية.

اليوم وبعد أن ثار الجزائريون ضد هذا النظام الذي استعبدهم، هل يجب عليهم أن يستمروا بالنظر للأمور بنفس المنظور؟ المنظور الذي لقنهم إياه النظام الذي وقفوا جميعاً ضده أم أن عليهم التقرب إلى بعضهم البعض أولاً والانفتاح على العالم ثانياً؟ فالقطيعة مع النظام السابق تبدأ بالقطيعة مع ذلك الفكر الواحد الذي زرعه، وإلا فمآلنا سيكون كما يقول المثل الشعبي "هرب من الحبس طاح في بابو" (الأمل بالخروج من ذلك السجن يبقى قائماً ما دام النضال مستمراً). والفكر الواحد الذي يجب إحداث قطيعة معه ليس فقط مجرد أسماء أشخاص أو أحزاب أو برنامج سياسي بل إحداث قطيعة مع الفكر الواحد الذي هو محاربة وتغيب من النقاش العام لكل فكرة مختلفة عما هو سائد والسعي لقمع وإسكات حاملها بالعنف، عكس الديمقراطية التي نريد والتي تقوم ليس على تعدد شكلي في أسماء الأحزاب ووسائل الإعلام بل على تعدد حقيقي للآراء والأفكار بتعدد المواضيع والمجالات وعلى مختلف المستويات، وعلى النقاش والحوار والحجة.

جمع النظام الجزائريين ووحدهم فخرجوا حاملين نفس الشعارات وهي المطالبة برحيله والمطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة، لكن ذلك لم يجعل منهم حاملين لنفس البرنامج للجزائر التي يريدونها مستقبلاً. والمسألة الدينية تعد من بين تلك المسائل الكثيرة التي نختلف فيها كجزائريين. فنحن مثلاً لا نعرف لحد الآن ماذا نريد، هل أن نؤسس لمجتمع مواطنين متساويين أمام القانون في الحقوق والواجبات، مجتمع ينافس الأمم بتحضرنا وبإنجازاتنا أم مجتمع متدينين ننافس به الأمم بتديننا وتعبدنا؟

ستختلف وتتعدد الآراء وسيطول النقاش، ومن حق كل شخص أو مجموعة أن يؤمن بأن رأيه هو الصواب وأن يدافع عنه، لكن لما يطرح ذلك الرأي للنقاش العام فمن واجبه أن يعرف لماذا يعتبر رأيه صواباً ولماذا يرى الرأي الذي يخالفه خطأ دون أن يحاول أن يفرض ما يراه هو صواب على الغير بالإكراه. قد يكون الأمر صعباً، فالنقاش لا يتم مع من نتفق معهم في الرأي بل مع من نختلف معهم، لكن لا سبيل لنا سوى أن نتقرب من بعضنا البعض، ونجلس معاً دون إقصاء ونستمع لبعضنا البعض في إطار الاحترام المتبادل.

ونحن اليوم نسير معاً ونحلم بجزائر الغد علينا أن نتذكر مقولة "مارتن لوثر كينغ" المناضل من أجل إنهاء التمييز العنصري ضد السود بأميركا "إن لم نتعلم أن نعيش معاً كإخوة فسنموت معاً كأغبياء".