كيف تذبل الأغاني؟

كيف تذبل الأغاني؟

23 يونيو 2016
"صبرا وشاتيلا"، ضياء العزاوي / العراق
+ الخط -

قبل تسعة أعوام، كنت افتح عينيَّ على "زهرة المدائن" تقول أمي: ما لك وما لفلسطين، وأنت تعيش في بلد يخرج من بركة دم ليسقط في وادٍ من نار؟ ولا أجيبها بغير ابتسامة.

في أحد أيام ذلك العام، كان لدي امتحان رياضيات، وكانت الحرب في غزة على أوجها. بين يدي دفتر أحل به بعض المسائل وأمامي تلفاز مقسومة صورته إلى نصفين؛ في الأولى اجتماع لقمّة عربية طارئة يعبر فيها ممثلو الحكومات العربية عن شجبهم وإدانتهم للعدوان الصهيوني، وفي النصف الآخر فريق من الدفاع المدني يخرج أماً ورضيعها متفحمين.

المسألة الرياضية في الدفتر عصت على رأسي، صرخت: أمي.. أمي لقد توقف رأسي عن العمل، لا أستطيع فهم شيء ولا حتى جمع أو طرح عددين بسيطين. وبينما كانت أمي تدخل الغرفة تصلبت أطرافي، وخذلتني حين حاولت النهوض.

نقلوني إلى المشفى وقال لي الطبيب إن انهياراً عصبياً حاداً أصابني وعليَّ أن أبتعد عن التوتر والإرهاق، ثم سألني عن سبب هذا الانهيار، فقلت له: غزة! ولم أعد أسمع "زهرة المدائن" صباحاً بعد الحادثة.

قبل عامين، كتب أحد الأصدقاء أثناء معركة 8 يوليو/ تموز 2014 على حسابه في فيسبوك سلسلة شتائم للعديد من الأطراف جعلته غير متابع للشأن الفلسطيني. يومها، قرأت لأمي ما كتب هذا الصديق فقالت لي:

كنا نبكي على فلسطين، ثم على العراق وفلسطين، ثم على العراق وسورية وفلسطين، حتى نفد الدمع وتوقفنا ببلادة عن البكاء، هل تعرف في زمننا حين يموت عجوز يبقى الحي بأكمله حزيناً عليه أربعين يوماً، ويمر عام دون أن يسقط اسم المتوفى من ألسن الناس، لكن الآن من يأبه؟ الموت في كل ساعة يطرق جميع الأحياء، أصبح روتيناً، وضاع الحزن بين القبائل!

ثم أضافت بعد حسرة: من يهتم الآن بأي شيء مجاناً؟ صار للمشاعر ثمن، انظر إلى المطبلين للمجازر والكوارث، دقق بهم جيداً وسترى.

قبل أيام، قال لي صديق: لم لا تكتب عن القضية الفلسطينية؟ ولم أعرف أي قضية كان يقصد صديقي؟ هل قضية جيش القدس الذي أسسه صدام بالتطوع الإجباري! أم فيلق القدس الإيراني الذي يقاتل في سورية؟ أم أنصار بيت المقدس الذي تغير اسمه إلى "ولاية سيناء" بعد مبايعة تنظيم داعش؟ أي قدس تقاتل جيوشها في العراق وسورية ومصر؟

أعرف أن القضية التي يعنيها قد تشظت في معسكرات ثلاثة: الأول متطرف إسلامي على الضفتين الشيعية والسنية، والثاني يساري يلتحف كل يوم يافطة عريضة ويحلم بالثورة، والثالث ليبرالي يائس جلدت الحروب شجرة عائلته ومزقت أغصانها فلم يعد يرغب بشيء سوى القليل من السلام وإن كان على حساب مبادئه.

أنا يا صديقي لست واحداً من هؤلاء، كانت لدي زهرة في هاتفي المحمول أسمعها صباحاً، ذبلت، ووضعتها في دفتر فيه مسألة رياضية بسيطة، ما زلت غير قادر على حلّها!

المساهمون