كيف انتصرت الفبركة؟ ولماذا ستظل تنتصر؟ (2 - 2)

كيف انتصرت الفبركة؟ ولماذا ستظل تنتصر؟ (2 - 2)

07 نوفمبر 2018
+ الخط -
لماذا تنجح الأكاذيب والأخبار المفبركة في تحقيق كل هذا التأثير على الناس؟
يقدم فريق الدراسة التي أجريت في معهد (إم آي تي) فرضيتين للإجابة على هذا السؤال، الفرضية الأولى: أن الأخبار المزيفة حافلة بالعناصر الدرامية والروائية بشكل أكبر بكثير من الأخبار الحقيقية، ولذلك تلفت انتباه المستخدم لموقع الاتصال الاجتماعي بقوة، وتدفعه لإعادة نشرها، لأن تأثيرها النفسي عليه منذ أول لحظة كان أقوى. الفرضية الثانية: أن الأخبار المزيفة تقوم بإثارة عواطف من يقرأونها ويغردونها أكثر بكثير من الأخبار العادية التي لا تحتوي على فبركة أو مبالغة، ولذلك حين قام الباحثون بإنشاء قاعدة بيانات للكلمات التي تم استخدامها للتعليق على آلاف الأخبار التي تمت دراستها، وقاموا بتحليل تلك الكلمات، وجدوا أن التغريدات المزيفة تميل إلى استخراج كلمات مرتبطة بالمفاجأة والصدمة والاشمئزاز من الذين قرأوها، في حين تستدعي التغريدات الدقيقة كلمات مرتبطة بالحزن والثقة، وهو ما يجعلها أقل انتشاراً وشعبية.

لكن هل كانت برامج موقع تويتر وآليات عمله نفسها تساعد على نشر المعلومات المضللة؟ للإجابة على هذا السؤال استخدم فريق الدراسة عدة آليات وخوارزميات لتحليل طريقة عمل آليات تويتر، فاكتشفوا أنها تعيد توزيع نشر الأخبار الكاذبة بنفس المعدل الذي تعيد فيه توزيع الأخبار الدقيقة، وهو ما يجعل تفسير الاختلافات الهائلة في درجة انتشار الأخبار الكاذبة مقارنة بالحقيقية أمراً لا يمكن ارتباطه بآليات عمل تويتر وحدها. لكن من ناحية أخرى حذر باحثون آخرون من أن تستخدم هذه النتيجة، لإنكار دور الآليات التي استخدمتها روسيا في زرع معلومات كاذبة في وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، وهو ما لم يعد يقبل التكهن، بل تم إثباته بشكل قاطع في عدة أحداث، من بينها مثلاً حين ساعد جيش من الروبوتات المرتبطة بجهات رسمية روسية في تضخيم الخطاب الخلافي بشكل حاد بعد حادث إطلاق الرصاص في مدرسة باركلاند بولاية فلوريدا، وهو ما كشفته تقارير موثقة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز.

يعلق ديف كارب أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن على هذه النقطة قائلاً إن ما توصلت إليه الدراسة صحيح، وما لاحظه المنتقدون لها في جزئية دور برامج التدخل الروسي في الفترة الأخيرة صحيح أيضاً، فآليات تويتر بالفعل لا تقوم بتعزيز ودعم الدعاية الكاذبة بشكل خاص دوناً عن الأخبار الدقيقة، لكن برامج الروبوتات التي تستغل ملايين الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعية، هي التي كثفت عملها وتمكنت خلال الفترة الأخيرة من نشر مزاعم الدعاية الكاذبة بشكل فعال، وهو افتراض لا تدحضه الدراسة التي قامت بمسح كامل لعمر تويتر، بما فيه السنوات التي لم تكن برامج استغلال مواقع التواصل الاجتماعي قد بدأت عملها بكل هذه الكثافة، وهو ما يتفق معه فريق العمل الذي يؤكد أن الدراسة لم تقم بدراسة الدور الذي لعبته شبكات الـ (بوت نت) في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي قامت فيها بإغراق مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار المفبركة والمعلومات المغلوطة، لكن العمل المستقبلي لفريق الدراسة سيهتم بهذه النقطة المثيرة للاهتمام.


من ناحية أخرى قام بعض الباحثين في العلوم السياسية بانتقاد تعريف الدراسة للأخبار المفبركة، حيث اقتصرت على الأخبار التي يمكن تحويلها إلى مواقع التحقق من الأخبار، متجاهلة وجود مجموعة أكثر اتساعاً وتنوعاً من المواد التي تحتوي على المعلومات المفبركة، مثل الأكاذيب المباشرة والشائعات والأساطير الشائعة بين الناس والمواد الساخرة والمواد المقلدة أو المحاكية للأخبار الأصلية بشكل فيه قدر من التلاعب والتحريف، وكلها مواد تؤدي نفس تأثير الأخبار المزيفة المدمر، ومع ذلك لم تتناولها الدراسة في تحليلها المقتصر على الأخبار المزيفة التي تنشر في شكل مقالات أو أخبار أو مقاطع فيديو تندرج تحت فئة المحتوى الإخباري.

أياً ما كان الخلاف بين فريق الدراسة وبين الباحثين المتحفظين على بعض أجزائها، فإنه لا يؤثر على أهمية النتائج التي يستخلصها كاتب مجلة (أتلانتيك) من حواراته مع عدد من الباحثين، وهي أن ما ينتشر على حسابات المشتركين في موقع تويتر أكثر هو المحتوى الذي يثير المشاعر القوية، بغض النظر عن مدى صحته أو دقته وهو ما تؤيده دراسات حديثة في علم النفس والاتصالات، وأن المعلومات المفبركة والزائفة على الإنترنت غالباً ما تكون حديثة جداً وغالباً ما تكون سلبية، وهذا النوع من المعلومات هو ما يجذب انتباهنا كبشر بشكل عام، ويجعلنا نريد مشاركة هذه المعلومات مع الآخرين، لنثبت بدورنا لمن يتابعوننا أننا منتبهون إلى التهديدات والأخطار الحديثة، خصوصاً ما كان منها يحمل تأثيرات سلبية على مجتمعنا، ولذلك نسعى لتنبيه الآخرين له، دون أن نشغل أنفسنا بالتحقق من ما نشرناه، وما سيساعدنا على فعل ذلك هو عدم وجود قيود مفروضة أو ملزمة على النشر، لذلك تكون المحصلة أن التكوين النفسي للبشر سيساعد مع التصميم الفعال لهذه الشبكات على انتشار الأخبار المفبركة دائماً.

وفي حين أشار كاتب مجلة (أتلانتيك) إلى وجود دعوات مستمرة لباقي منصات التواصل الاجتماعي للاقتداء بموقع تويتر، وإتاحة بياناتها للباحثين لدراسة الطريقة التي تنتشر عليها الأخبار، خاصة أن هذه المنصات تمارس قدراً كبيراً من التأثير على الأخبار التي يحصل عليها الناس الآن، وتؤثر على اختياراتهم السياسية، ولذلك ينبغي أن تواجه الشركات التي تدير هذه المنصات أخطاءها بمنتهى الشفافية والدقة، وبرغم أن تويتر استحق الثناء على تعاونه مع فريق الدراسة، إلا أن دراسته لوحده لا تعد كافية، لأن 12 في المائة فقط من الأمريكيين يستخدمونه ويتلقون أخبارهم منه، وأغلب هؤلاء ليسوا من الناس العاديين الذين يفضلون استخدام مواقع أخرى مثل الفيس بوك الذي لم تستجب إدارته لطلب من كاتب مجلة (أتلانتيك) بالتعليق على نتائج الدراسة، وعلى تعهد موقع تويتر بأن يقوم بتوسيع نطاق عمله مع الخبراء الراغبين في دراسة عمله، لمزيد من الانفتاح والحوار العام وتحمل المسئولية تجاه التقدم، طبقاً لنص البيان الذي أصدره جاك دورسي الرئيس التنفيذي للشركة التي تملك موقع تويتر.

يشير الكاتب روبنسون ماير أيضاً إلى أن موقع (فيس بوك) أعلن أنه سيعيد هيكلة ما ينشر عليه من أخبار، لتفضيل ما وصفه بـ (التفاعل الهادف)، والذي يتم قياسه بناءاً على عدد التعليقات والردود والتفاعلات التي تتلقاها المشاركة الإخبارية، لكن نتائج دراسة (إم آي تي) سبق وأن حذرت من الاستناد إلى هذا وحده لقياس الخبر الذي يستحق الدعم، لأن الأخبار المليئة بالمعلومات الخاطئة هي التي تنجح في استمالة ردود فعل عاطفية قوية، وهو ما سيؤدي إلى نشر خبر غير دقيق لمجرد أنه حظي بتفاعلات أكثر من المستقبلين له.

من النتائج المثيرة للاهتمام والإحباط أيضاً التي توصلت لها دراسة الفريق البحثي، أن المستخدمين الذين يقومون بمشاركة الأخبار المزيفة، ليسوا بالضرورة متحمسين أو متفرغين لنشر الأخبار الكاذبة، أكثر من غيرهم ممن ينشرون الأخبار الدقيقة، وأنهم ليسوا راغبين في جذب جمهور أكبر يقبل على ما يقدمونه، بل على العكس، تثبت دراسة حسابات تويتر أن المستخدمين الذين يقومون بمشاركة أخبار دقيقة، لديهم عدد أكبر من المتابعين، ولديهم عدد أكبر من المشاركات، مقارنة بمن يفضلون مشاركة ونشر الأخبار المزورة، كما أن مستخدمي الأخبار الدقيقة يظلون على تويتر لفترة أطول، وكثير منهم تتحول حساباتهم إلى حسابات موثقة، وهو ما يتيح لهم التباهي بالحصول على ميزة يقدمها لهم موقع تويتر ومجتمع تويتر، باعتبارهم من أفضل مستخدميه وأكثرهم جدارة بالثقة، ومع ذلك فقد فشل هؤلاء في كسب معركتهم ضد الفبركة والتزييف والكذب بشكل ملحوظ ومثير للأسف والتساؤل.


يحرص روبنسون ماير على التأكيد أنه بدأ استخدامه لموقع تويتر منذ عام 2007، وحصل بفضله على عمل في الصحافة، لكنه مع ذلك يقر أن (تويتر) وغيره من منصات التواصل الاجتماعي بحكم طبيعتها لا تشجع على نوع السلوك الذي يرسخ نظام حكم ديمقراطي، فحين يتحول كل مستخدم لأي من مواقع التواصل الاجتماعي إلى قارئ وكاتب وناشر في نفس الوقت، فإنه مهما كانت رصانته، قد يجد نفسه مندفعاً بفعل إرهاق الصراع السياسي، إلى الاندفاع خلف شائعة أو قصة مفبركة قد تكون مفيدة من الناحية السياسية، لعلها تساعد على فوز فريقه السياسي أو مرشحيه في خضم موسم انتخابات مليئ بالقلق والتوتر، وقد صارت كل الانتخابات مؤخراً مثيرة للقلق والتوتر، خصوصاً في بلد كأمريكا يمتلك فيها رئيس الجمهورية سلطات واسعة تحوله إلى إمبراطور قادر على تدمير حياة الكثيرين أو تحسينها، وهو ما يفسر لماذا لم يحدث تطور لافت في انتشار الأخبار المفبركة في انتخابات التجديد النصفي، بعد كل ما تم كشفه عن الدور السلبي الذي قامت به الأخبار المفبركة في حسم انتخابات الرئاسة الأمريكية قبل عامين.

ختاماً، يعترف الباحثون المشاركون في فريق الدراسة أنهم لا يعرفون طبيعة التدخلات التي يمكن أن تتم لكبح الميل نحو نشر الفبركة والزيف على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن هناك القليل من الأدلة على أن الناس يغيرون رأيهم حين يرون موقعاً لفحص الحقائق يقوم بدحض بعض ما يعتقدون بصحته، ولذلك فإن وصف خبر ما بأنه مزيف أو مفبرك على شبكة اجتماعية أو محرك بحث، لا يعني بالضررورة أن ذلك الخبر سيتم السيطرة عليه أو سيقل انتشاره، وهو ما يعني أن وسائل التواصل الاجتماعي ستستمر في مضاعفة انتشار الفبركة والزيف بشكل منهجي على حساب الحقيقة والدقة، ولا أحد سواء كان من الخبراء أو السياسيين أو شركات التقنية يعرف كيفية عكس هذا التوجه بشكل فعال، وهو ما يجعل اللحظة الحالية لحظة شديدة الخطورة على أي رغبة في العيش المشترك وإقامة مجتمع سوي يفترض أن الديمقراطية وحرية الرأي والإعلام ستساعدان على تحقيقه.

لكن هل يعني ذلك أن نتوقف عن محاربة الأكاذيب وأن نتجاهل نشر المعلومات الدقيقة؟ بالطبع لا، ليس أمامنا إلا أن نفعل ما تمليه علينا ضمائرنا، مهما كانت التضحيات والمنغصات، لكن ذلك لا يعني في الوقت نفسه أن نضلل أنفسنا بأوهام تجعلنا نتصور أن نشر الأكاذيب يقف وراءه فقط نقص المعلومات وتشوش الرؤية، وننسى أن نشر الأكاذيب يقف وراءه في المقام الأول التعصب والتحيز الأعمى والرغبة في الحسم الكامل للصراعات السياسية والدينية، التي يتصور المتعصبون أنها صراعات صفرية نهائية، مهما أثبتت لهم التجارب خطأ ذلك، وأننا في نهاية المطاف مضطرون لأن نتقبل اختلافاتنا عن بعضنا ونتعايش معها، وإلا هلكنا جميعاً، وهو ما يظن البعض أنه اختيار مقبول، لكنهم في ساعة الجد سيغيرون رأيهم ويرضون بتقديم تنازلات عن مواقفهم المتعصبة، والمشكلة أنهم يفعلون ذلك غالباً في الوقت الذي تقل فيه قيمة تلك التنازلات ويتضاءل أثرها، ومن أجل ذلك رأت الحكمة الإنسانية المتوارثة عبر الأجيال أن "اللي يشيل قربة مخرومة تخرّ على قفاه".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.