كيف أخفقت ثورة يناير؟

كيف أخفقت ثورة يناير؟

11 اغسطس 2020
+ الخط -

تمر السنوات، وما ينشر عن ثورة المصريين ضد الاستبداد في يناير/ كانون الثاني 2011 من دراساتٍ جادة قليل نادر، وكأن قدر المصريين هو ألا يتعلموا دروس أهم تجاربهم التاريخية. ومن أهم الدراسات التي صدرت عن ثورة يناير كتاب الصحافي الأميركي، ديفيد كيركباتريك، "في أيدي العسكر" (INTO THE HANDS OF THE SOLDIERS) والذي يتضمن معلومات وملاحظات مهمة عن سلوك مختلف الفاعلين السياسيين المصريين والأجانب خلال سنوات الثورة الأهم، وحتى الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، جمعها كيركباتريك، بحكم عمله مراسلا لصحيفة نيويورك تايمز في القاهرة خلال تلك الفترة. والشهادات المهمة التي جمعها عزمي بشارة في كتابه من جزأين "ثورة مصر.. من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير" و"ثورة مصر.. من الثورة إلى الانقلاب" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، وهو أهم دراسة توثيقية أجريت عن تلك الفترة، خصوصاً أنه تضمن شهادات ومقابلات مهمة مع نشطاء وسياسيين، ربما تغيرت توجهاتهم السياسية كثيرا خلال السنوات الأخيرة، هذا بالإضافة إلى رؤى تحليلية ثاقبة عن تطور مصر السياسي، وكيف قاد إلى ثورة يناير والتحدّيات التي واجهتها.
وصدر في مارس/ آذار الماضي كتاب مهم للباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عبدالفتاح ماضي، بعنوان "عثرات في الميدان: كيف أخفقت ثورة يناير في مصر؟"، ويتميز بطبيعته التحليلية، وتركيزه على مفهوم "التحول الديمقراطي"، وهو من أهم المفاهيم الأساسية التي كان يجب أن تشغل المصريين منذ ثورة يناير، ولكنها تبدو غائبة. ويؤكد ماضي في بداية كتابه طبيعته التحليلية، والتي لا تركز على الرصد أو التوثيق، بقدر ما تركز على تقديم تفسير شامل لأسباب إخفاق الثورة. ويتميز الكتاب بقصره نسبيا (300 صفحة)، وبأسلوبه السهل الواضح للغاية، وعباراته المكتوبة بعناية وبحث وطني مشغول بقضايا الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات وحكم القانون، ودور مصر في محيطها العربي ومواجهة ضغوط الخارج، ما يجعل قراءة الكتاب ضرورية للمعنيّين بتقدّم مصر السياسي، أو بتحرّرها من الاستبداد الداخلي والتبعية للخارج.
يقول ماضي إن تاريخ مصر السياسي الحديث دار حول قضيتين أساسيتين، الاستقلال والدستور. وبهذا تعد ثورة يناير جزءا من هذا التاريخ، لسعيها إلى بناء دولة ديمقراطية تقوم على حكم القانون والمؤسسات، وذلك في مقابل الدولة التي أسسها تدخل الجيش المصري في السياسة منذ عام 1952، والتي عجزت عن بناء دولة المؤسسات، وتسببت بخسائر داخلية وخارجية فادحة، وفي مقدمتها هزيمة عام 1967 وإقصاء الشعب وإرادته من المعادلة السياسية، والفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية، واستمرار التبعية للخارج في صور مختلفة.

 سعت ثورة يناير، وهي جزء من تاريخ مصر الحديث، إلى بناء دولة ديمقراطية تقوم على حكم القانون والمؤسسات

ثم يتحوّل الكتاب إلى الحديث عن مفهوم التحوّل الديمقراطي، وهو محور الكتاب وفكرته الأساسية، وكيف غاب هذا الأمر عن مختلف القوى السياسية التي قادت ثورة يناير. حيث يرى المؤلف أن هدف الثورة التي أجهضت لم يكن الدفاع عن الشريعة أو قضايا الهوية الدينية أو العلمانية، كما لم يكن في التركيز على الانتخابات أو كتابة الدستور، وطبعا لم تقم الثورة لكي يتولى الجيش الحكم بعد حسني مبارك. الثورة قامت لنقل مصر من دولة استبدادية إلى دولة ديمقراطية، تنتقل فيها مصر تدريجيا من دولةٍ تحكمها أقلية صغيرة نافذة إلى دولة قانون ومؤسسات واستحقاقات ديمقراطية مختلفة.
وسيلة تحقيق ذلك، كما يوضح الكتاب، تبدأ باتحاد القوى السياسية التي قادت ثورة يناير وتوافقها على التحول الديمقراطي هدفا لها في مرحلة ما بعد رحيل مبارك عن السلطة، وانخراطها في حوار جاد ومستمر لتوحيد صفوفها وتطوير أجندة واضحة لنقل السلطة من قوى النظام القديم، وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية الحاكمة، إلى قوى مدنية تعبر عن الثورة والقيم الديمقراطية. لم يتحقق هذا الهدف، بل تحولت فكرة وحدة القوى السياسية وتوافقها إلى مسبة ومصدر صراع دائم بين أنصار القوى السياسية، نظرا إلى سيطرة الاستقطاب السياسي والصراع على العلاقة بين قوى الثورة المختلفة.

لم تنتبه القوى السياسية إلى أن استيلاء المجلس العسكري على السلطة بعد تنحّي مبارك يعد انقلابا عسكريا، وإلى أهمية إخراج الجيش من العملية السياسية

يكتب عبد الفتاح ماضي أن القوى الشبابية المصرية التي تقدّمت بعض صفوف ثورة يناير فشلت في تنظيم نفسها، ولم يتبق إلا التعويل على قوى المعارضة التقليدية، وفي مقدمتها التيار الديني بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، والقوى المدنية التي شاركت في حركات مثل الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وحملة محمد البرادعي وبعض الأحزاب اليسارية والليبرالية. وللأسف، سرعان ما وقعت تلك القوى في خلافاتها القديمة نفسها. وهنا يرصد الكتاب محاولات تلك القوى للحوار قبل الثورة وبعدها، فيكشف عن الضعف الشديد الذي اعترى تلك المحاولات.
لم تنتبه القوى السياسية إلى أن استيلاء المجلس العسكري على السلطة بعد تنحّي مبارك يعد انقلابا عسكريا، ولم تتنبه إلى أهمية إخراج الجيش من العملية السياسية، وضمان عدم انخراطه في السياسة، بل حاولت التقرب منه على فترات مختلفة، ففي البداية تقارب منه الإخوان المسلمون، وشجعوا مسار الانتخابات، وكأن الثورة التي قامت في مصر "ثورة انتخابية"، وهو مصطلح يكرّره الكتاب، في إشارة إلى أن الانتخابات لم تكن، في حد ذاتها، هدفا للثورة، ولا يمكن مساواتها بالديمقراطية، والأصل أنها تتم بعد الاتفاق على أسس النظام الديمقراطي الحاكم لها.
في المقابل، انشغلت القوى المدنية بالدستور وكأنه هدف في حد ذاته، بدلا من الانشغال بالحوار مع القوى الثورية الأخرى، فالأصل أن الفترات التالية للثورة هي للتوافق وكتابة وثائق دستورية مختصرة تعدّل فيما بعد، والأصل أن تركز على نقل السلطة من قوى النظام القديم إلى تحالف واسع ومتماسك من القوى الثورية المدنية المؤمنة بالديمقراطية، وأن تضمن عدم تدخل أي قوى غير منتخبة في العملية السياسية، وأن تسعى إلى تعزيز حكم القانون والمؤسسات، وتحقيق إنجازات اقتصادية لضمان دعم الجماهير الثائرة. 
ولكن قوى المعارضة انشغلت بالتنافس وتسجيل النقاط، كما قامت بتصدير خلافاتها إلى الجماهير، والتي انخرطت في استقطاب سياسي مؤسف. وفي النهاية، ضجر قطاع واسع من المصريين من حالة الاستقطاب السياسي والصراع بين القوى السياسية المختلفة، مفضلا العودة إلى النظام القديم الذي ملأ عقله عقودا بأفكار سلبية عن الديمقراطية والمعارضة، وكيف أن المصريين في حاجة دائما لحاكم قوي ولنظام عسكري.
ولا يغفل كتاب "عثرات في الميدان.. "الدور السلبي الذي قام به المجلس العسكري في تقسيم القوى السياسية وإجهاض ثورة يناير والانقلاب عليها، ولا يغفل الدور السلبي للخارج الذي دعم الاستبداد عقودا، ولم يفعل الكثير لدعم ثورة يناير، أو لرفض الانقلاب العسكري. هذا بالإضافة إلى الدور السلبي الذي قامت به قوى الثورة المضادة في الإقليم، وفي مقدمها السعودية والإمارات وإسرائيل، وهي عوامل خطيرة ومؤثرة ومتوقعة، لكنها لن تمنع التحول الديمقراطي في مصر، لو توفرت فيها نخبة سياسية مؤمنة بالتحول الديمقراطي هدفا، وقادرة على توحيد صفوفها وتطوير أجندة عمل واعية ومشتركة، لتحقيق هذا الهدف، ولو طبقت تدريجيا على مراحل.

انشغلت القوى المدنية بالدستور وكأنه هدف في حد ذاته، بدلا من الانشغال بالحوار مع القوى الثورية الأخرى

يعيد الكتاب الكرة إلى ملعب قوى المعارضة المصرية، ويكشف عن أوجه خطيرة لضعفها، فهي تبدو مشغولة عن التحوّل الديمقراطي بأهداف أخرى، في مقدمها قضايا الهوية ومصالحها السياسية وصراعاتها المختلفة، ما يقوّض فرص التحول الديمقراطي، والذي يحتاج نخبة متماسكة ومؤمنة به، وتمتلك رؤية ناضجة للمطالبة به وتطبيقه. خلاصة الكتاب تقول إن الثورات لا تنجح بالجماهير الثائرة، وإنها في حاجة إلى نخب واعية وموحدة ومؤمنة بالديمقراطية ومتطلبات مرحلة التحوّل الديمقراطي الدقيقة والصعبة، تقود الجماهير في مواجهة قوى النظام القديم، وفي مقدمة هذه القوى المؤسسات الأمنية وقوى الخارج، وهو ما لم يتوفر في الثورة المصرية، فأخفقت.