كيث هارينغ... كائنات تحيا على جدران مترو أنفاق نيويورك

كيث هارينغ... كائنات تحيا على جدران مترو أنفاق نيويورك

21 يوليو 2020
تهافت مصممو الموضة وشركات الأزياء على أعمال هارينغ (Getty)
+ الخط -

حقق المعرض الاستعادي الضخم لفنان البوب الأميركي، كيث هارينغ، نجاحاً لافتاً في العاصمة البلجيكية، بروكسل، ما دفع مركز "بوزار" الذي يستضيف المعرض، إلى تمديده حتى يوم أمس، في سابقة من نوعها.
لم يشهد تاريخ فن البوب (Pop art) أعمالاً فنية فاقت شهرتها أصحابها، كما حدث مع أعمال فنان الشارع كيث هارينغ (1958 - 1990). يعرف العالم اليوم هذه الرسوم الملونة بخطوطها البسيطة ومعانيها العميقة، بدءاً من التماسيح التي تفتح أفواهها، وصولاً إلى الطفل الذي يحبو، والرجال الراقصين، والأطباق الطائرة والقلوب الحمراء، أكثر مما نعرف عن الفنان الذي رسمها، وهو ما يقدمه لنا معرضه الاستعادي الضخم في بروكسل، والذي يثبت من جديد أن أعمال هارينغ ما تزال حية، وما تزال تشتبك بقوة مع قضايا عصرنا الراهن، كأنها رسمت للتو وليس قبل 40 عاماً.
عاش كيث هارينغ وكبر في مانهاتن أواخر سبعينيات القرن الماضي. كانت مانهاتن نقطة الجذب الرئيسية لفناني الشارع، الذين شكلوا بدورهم هامش الحياة الثقافية والفنية في نيويورك آنذاك. وبسبب ولعه برسوم الغرافيتي، بدأت أعمال هارينغ اللاذعة تملأ ممرات مترو أنفاق نيويورك والساحات والجدران. وسرعان ما تعرف الفنان الشاب على نجوم هذه الفترة من الفنانين والموسيقيين والرسامين، ومن أبرزهم مادونا وغراس جونس ورسام الشارع جان ميشيل باسكيا، كما كان آندي وارهول بشهرته العالمية مصدر إلهام مهم لجيل هارينغ.
وغالباً ما اجتمع هؤلاء وغيرهم في Club 57 بحفلاته الموسيقية الراقصة وأجوائه المتحررة، وهي التجمعات الفنية التي ستثمر في ما بعد عن ولادة جيل جديد من فناني البوب الآرت والهيب هوب، كان من أبرزهم هارينغ نفسه، الذي لم يمهله القدر طويلاً ليحيا نجاحه الفني كاملاً، فرحل عام 1990 عن 31 عاماً فقط، نتيجة لمضاعفات إصابته بالإيدز.

جيل جديد
حين انتقل هارينغ إلى نيويورك عام 1978، كانت المدينة فقيرة وتعاني من تفشي الجريمة وحروب عصابات المخدرات. وتعود الفنانون الشباب الاستيلاء على المستودعات الفارغة في ضواحي المدينة وتحويلها إلى استوديوهات أو سكن لهم، وهو ما فعله هارينغ، الذي سكن أحد هذه المستودعات، حيث اجتمع الشعراء والفنانون ورسامو الشوارع وصانعو الأفلام والموسيقيون. ومن هذه اللقاءات، بدأت ثقافة الهيب هوب في الفن والغناء في نيويورك، لتنتشر لاحقا في العديد من بلدان العالم.
ومع أوائل الثمانينيات، بدأت رسوم كيث هارينغ تلفت الأنظار إلى موهبته الخاصة وخطوطه الطفولية البسيطة، ناهيك عن القضايا السياسية والاجتماعية التي عالجها بجرأة غير معهودة في ذلك الوقت، فتناول الفنان بوصفه ناشطاً دؤوباً القضايا الحساسة، ومن أهمها الفصل العنصري في أميركا، كما وقف ضد تورط بلاده في فيتنام ونيكاراغوا، وضد رهاب المثلية الجنسية في عقد ظهر فيه مرض الإيدز. كما شن حملة للدفاع عن حقوق الأقليات الجنسية ومعالجة أزمة الإيدز، ما جعل هارينغ يصبح بعد موته، رمزاً لمجتمع الميم LGBTQ في أميركا، كما حذر من خطر التهديد النووي في رسوماته، خاصة بعد كارثة تشيرنوبل في إبريل/ نيسان 1986.

لايف ستايل
التحديثات الحية

فجوة الفن والحياة
على العكس من مجايليه، حارب هارينغ ليجعل فنه في متناول الشارع بكل فئاته، فكان يرسم أعماله في الأماكن العامة والشوارع ومحطات المترو. وعلى الرغم من تهافت شركات الأزياء والموضة على أعماله منذ بداياته الفنية، إلا أنه ظل يقدم فنه للبسطاء رافعاً شعار "الفن للناس.. وليس للأثرياء وحدهم"، كمن يحاول سد فجوة، كانت وما تزال، تتسع بين الفن والحياة.
ربما يعود هذا الطبع لدى هارينغ إلى أصوله الريفية البسيطة، فجذوره تعود إلى بلدة صغيرة في ولاية بنسلفانيا، حيث جاء من خلفية محافظة ثقافياً، لكنه افتتن مبكراً بالكاريكاتور والجداريات الغرافيتية والطبشورية، وهو ما قرر دراسته، لكنه ينسحب بعد فترة قصيرة من دراسة الفنون الغرافيكية، ليتفرغ لإنتاج الكاريكاتور والجداريات، مدمجاً ما سماه وقتها "التقنيات الهيروغليفية للجداريات" بأساليب الرسم التخطيطي، كما استفاد في أعماله من الفن المتوحش وفنون الأطفال، وهو الأسلوب الذي سيطوره هارينغ لاحقاً، ليدمج فنون الأداء بالفيديو آرت والفن المفاهيمي والتجريدي، في أعمال فنية مبهرة، تحولت مع الوقت إلى ماركة مسجلة غير قابلة للتقليد.
تهافت مصممو الموضة وشركات الأزياء على أعمال هارينغ، مثل فيفيان ويستوود، التي باعتها في ما بعد بأثمان باهظة، محولة عمل الفنان إلى شيء يصعب على الكثيرين اقتناؤه، دفعه إلى افتتاح متجر تجزئة في حي "سو هو" ليبيع من خلاله أزياء ودمى وملصقات تحمل أعماله الفنية بأسعار رمزية، في الوقت نفسه الذي استمر فيه الفنان المتمرد في تصميم ملصقات الدعاية لأكبر شركات الخمور وأشهر ماركات الساعات، مثل سواتش وغيرها. كما استغلت شركات الملابس الرياضية موتيفات من أعماله في تصميم أزيائها، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه هارينغ في تصميم ملابس صديقاته المغنيات، حيث ارتدت مادونا معطفاً من تصميمه في إحدى جولاتها الفنية التي قدمت خلالها أغنيتها الجديدة وقتها "Like a Virgin"، كما صمم هارينغ أيضاً أزياء غراس جونز وخلفيات أغنيتها "I'm Not Perfect".

دلالات

المساهمون