كونشرتو الكمان لـ تشايكوفسكي... تمارين أولى في صيف دمشقي

كونشرتو الكمان لـ تشايكوفسكي... تمارين أولى في صيف دمشقي

06 نوفمبر 2019
عبقرية تشايكوفسكي تجلّت بصهره للهوية القومية الروسية بالعالمية (Getty)
+ الخط -
لامتحان الفصل القادم، سوف تُحضّر كونشرتو تشايكوفسكي للكمان. 
أصابتني حالاً رعشةٌ، عارضُ صدمةٍ، مصدرها خلْطة من فرحة ورهبةٍ في آن، جرّاء ما قد نطق به الأستاذ يفغيني للتو. ردّي أتى سريعاً صريحاً أخمد أي حماسة مُنتظرة: وهل حقاً أستطيع يا أستاذ؟

كان ذلك في دمشق صيف عام 1997. لم أزل بعدُ في الثامنة عشرة من العمر، في غمرة التحضير لامتحانات الشهادة الثانوية، والتي ذهبت ضحية الكونشرتو العتيد. أفصح الأستاذ عن الأمر بعد انتهاء أحد الدروس المسائية الطويلة في "المعهد العربي للموسيقى". كنا نمشي معاً نزولاً من حيّ نوري باشا العريق باتجاه جسر الرئيس. من تحته، سنركب "السرفيس"؛ ذاك الميكروباص الأبيض الصغير، ليقلّنا إلى ضاحية مشروع دمّر، حيث يسكنُ الأستاذ، وأسكن أنا.

يفغيني لوغينوف؛ واحدٌ من خيرة طاقمٍ عريض من أساتذة روس، وآخرين من جمهوريّات سوفييتية سابقة. استُقدم هؤلاء إلى سورية منذ الستينيات لتعليم الموسيقى الكلاسيكية. التحقْتُ بصفّه فجرَ بلوغي الرابعة عشرة. وعشيّة وصوله إلى دمشق، بتوجيه من الراحل صلحي الوادي (1934-2007)؛ أحد الآباء المؤسسين للحياة الموسيقية في البلد، حين كان مدير المعهد العربي، عميد المعهد العالي للموسيقى، ومُحْدث وقائد الفرقة السيمفونية الوطنية حتى عام 2002.

كون الأستاذ روسيّاً، وُلد ونشأ في جبال الأورال، أكمل الدراسة في موسكو التي يُطلق على جامعة الموسيقى فيها كونسرفتوار "تشايكوفسكي"، تيمّناً بالأخير وتكريماً له؛ هو الذي كان من أوائل المدرسين غداة تأسيسه عام 1866. لذا، بالنسبة إلى كلينا، كان اختيار ذلك الكونشرتو للكمان، يكاد أن يكون بمثابة شعيرة قُدسية.

لي شخصياً، ذلك اليافع الصغير الذي كُنته، متيّماً بالموسيقى، ولهان بالكمان، أن أعزف كونشرتو تشايكوفسكي، أن أتناول النوتة من مكتبة الأستاذ لكي أنسخها، أن يعتلي كماني كتفي، بقوسي وأصابعي أتقصّى لحن المقدّمة، يعني المرور بمحطّة جديدة على مشوار الاحتراف، صعودَ عتبة راقية من الدربة الفنيّة والوعي الجمالي. من ناحية أكثر حميميّة، عزفُ كونشرتو تشايكوفسكي أقامَ في نفسي فرحاً داخلياً، كان بمثابة اقتراني بالحبيب الأول.

خلال رحلات العودة المسائية بعد ساعات الدروس المُضنية والطويلة، وعلى صوت المذياع يبث أغنية ضاربة صاخبة لعلي الديك، تُزيّن هدير مُحرّك يدفعُ سرفيس "المشروع دمر - مساكن الحرس" بسرعة جنونية، خضنا النقاشات، الأستاذ وأنا، حول كونشرتو الكمان خاصةً، وموسيقى تشايكوفسكي عامّةً. من نافذة المقعد الأمامي، حيث اعتدنا الجلوس متأبطّين كماناتنا، مُطلّين على طريق الربوة المُحاذية لنهر بردى، تأملنا معاً السياق الثقافي الذي تمخّضت عنه تلك الرائعة الموسيقية الخالدة.

خلصنا إلى نتيجة؛ أن عبقرية تشايكوفسكي قد تجلّت في صهره للهوية القومية الروسية بالعالمية العابرة للهوية. هو المؤلف الأقلّ ادّعاءً بالحفاظ على التراث، بينما ومن خلال بديع ألحانه وفريد ائتلافاته وإيقاعاته، برز تاريخياً بوصفه الأمثلَ تجسيداً والأصدق تعبيراً عن الروح السلافيّة، وإن دائماً في عرض المحيط الإنساني.

مثلاً، مُقدمة الحركة الأولى من الكونشرتو، مجموعُ نغمات آخرها رابعة تهبط ثلاثة أبعاد نزولاً تؤديها الوتريّات، كجوقة من مرتّلين، تستقدم تراثاً من الغناء الديني يصل إلى القرن العاشر، زمانَ قام أمير كييف، فلاديمير العظيم (958-1015) بتنصير روسيا وإيداعها برعاية الكنيسة الأرثوذوكسية.

ثم تجول الكمان مُنفردةً ومُتفرّدةً كعصفور شادٍ صغير، من غصن إلى غصن يطير، في جمل مُتناهية الصعوبة التقنيّة، ما دعا جوزف كوتك (1855-1885) عازف الكمان ومُلهم تشايكوفسكي بكتابة العمل، لأن يرفض أداءه في حفل الافتتاح. كذلك، أتى اعتذار من أُهدي الكونشرتو له وكُتب باسمه؛ أسطورة الكمان ليوبولد آور (1845-1930).

استحالة تقنيّة ما زلت أذكر مُرّها جيداً، الساعات الطوال التي قضيتها في التمرين، إما سجينَ غرفة نومي الصغيرة في بيت أهلي المُطلّ على الشارع المُزدحم بالأضواء والضوضاء، أو حبيسَ غرفة الصف، فيما صراخ الأستاذ يفغيني، عقب كل ضلّة قوس وزلّة إصبع، يعلو حتى سفوح قاسيون، عبثاً أن أُفلح في إدراك مراده ورغبته.

على الرغم من أنه لم ينتسب قط إلى "الخمسة العتاة"، وهم عُصبة مؤلفين ألمعهم كان موسورسكي (1839-1881)، وريمسكي كورساكوف (1844 - 1908)، يُقدّم تشايكوفسكي في الحركة الثانية والبطيئة؛ الكانزونيتّا، لحناً سلافيّاً خالصاً، ذا طعمٍ شرقي ميلانكولي، يُجسّد حرفيّاً إعلان المبادئ الذي ألهم هؤلاء، والتي نظّر لها القومويّ فلاديمير ستاسوف (1824-1906)، حضّ فيها على استلهام كامل جغرافيا الموسيقى الروسية المُمتدة من اسكندنافيا إلى جُزر اليابان.

ذاك اللحن الحجازي الحزين، الذي أججّ فيّ كما في قلوب العاشقين أوجاع الحنين، بثّه الراحل فاهيه تمزجيان (1945-2011) مرّات عبر أثير الإذاعة السورية خلال برنامجه الموسيقي تمام العاشرة كلَّ مساء. كنت أغفو مُحتضناً جهاز الراديو الصغير، وأنا أستمع إلى دافيد أويستراخ (1908 - 1974) يعزف الكانزونيتّا تُسدل الليل الدمشقي الصيفيّ الحار ليصيرَ كألفِ ليلة وليلة.

الحركة الثالثة النشطة والسريعة محض رقصة فولكلوريّة روسيّة، كأن الكمان فتى يتوسّط الميدان مُحاطاً بمجموع آلات الأوركسترا تدبّ وتدبك، تتناوب على القرفصاء وتتنافس على الارتقاء في الهواء. مع حلول اللحن الثاني العذب والرقيق، تصير الكمان فتاة صغيرة، حسناء، تدور بين الصبْية في حياء، تسلبُ معها الألباب والأفئدة.

بالموسيقى، أبرز تشايكوفكسي حال ازدواج الهوية الروسيّة؛ مركزٌ حضريّ مُتعصرن ومُتمدّن، مُتمثّلٌ في مدينتيّ موسكو وسانت بطرسبرغ، أراده القياصرة المُستغربون قطبَ إشعاع ثقافي أوروبيّ الهوى والذائقة، وبين سلة زراعية من الأراضي الشاسعة النائية سادها الجهل وتسيّدها الإقطاع وسطوة الكنيسة قروناً طويلة. مركزيةٌ تبدو عُرضةً للاستقطاب المديد وعصيّةً على التعدديّة السياسية، صبغت الحياة في روسيا القيصرية ثم السوفييتية ، وحتى روسيا اليوم.

ازدواجية تجمع بين عذوبة الألحان وصفائها وبين صعوبة تصل حدود المازوخيّة الفنيّة، تجعلُ من كونشرتو الكمان لتشايكوفسكي تحدّياً أصابني بالأرق لياليَ طوالاً، حتى آل المحال حقيقة سرنميّة مفادها؛ أنّني إن لمست ولو أدنى درجات الكمال، كنت سوف أنال القليل من رضا أستاذي عَليّ ورضاي على نفسي، أو ربما من باب التمنّي، بعضاً من رضى مؤلفه.

دلالات

المساهمون