كوكو واوا في نيابة أمن الدولة (4/4)

كوكو واوا في نيابة أمن الدولة (4/4)

16 يوليو 2020
+ الخط -

كان لا بد لي أترك شنطة الغيارات أمانة لدى الجزمجي، قبل الدخول إلى مقر النيابة، وكان لا بد له أن ينتهز الفرصة فيأخذ مني خمسة جنيهات كرسوم تخزين، بعد أن أصر بحسه الأمني المرهف على فتح الشنطة ليطمئن إلى ما فيها، لكن ذلك كان أرحم من تعرضي للتفتيش ستين مرة على باب النيابة وفي أروقتها، خاصة أن الأجواء كانت مكهربة، وتزداد كهربتها كلما تصاعدت هتافات وتكبيرات معتقلي الجماعات الإسلامية، وإن كنت قد ندمت على ذلك وأدركت أنني كان يمكن أن أوفر الجنيهات الخمسة، حين وجدت استقبالاً حافلاً بمجرد أن ذكرت اسمي على باب مقر النيابة، ليتضح أن سر الأستاذ أحمد الخواجة كان باتعاً بشكل يثبت صحة عبارة "يا بخت من كان النقيب محاميه".

خلال سيري بصحبة موظف الاستقبال نحو مكتب وكيل النيابة، لم يفارقني مشهد سير عادل إمام في أروقة مبنى مباحث أمن الدولة في فيلم (اللعب مع الكبار)، متخيلاً أنني سأسمع صيحات التعذيب تنبعث من هذا المكتب أو ذاك، مع أنني أعرف الفارق بين النيابة والمباحث، لكن وجود ذلك التعبير المشبوه "أمن الدولة" كان كافياً لإزالة أي فوارق، وحين وصلنا إلى المكتب المنشود، استقبلني وكيل نيابة شاب ومتأنق بمودة منضبطة، وسألني عما أحب أن أشربه، فقررت ألا أضيع فرصة الخروج بمصلحة على قفا الدولة، فطلبت كوب ليمون مثل الذي أمامه، وحين ابتسم استدركت فقلت له طامعاً في المزيد من اللطف: "إلا إذا كنت هاحاسب عليه"، فلم يستسغ الدعابة، وطلب من الساعي إحضار كوباية ليمون لي، ثم بدأ يقلب في ملف يفترض أنه ملف قضيتي الخطيرة، بينما أخذ كاتب النيابة يسلقني بنظرات حِداد فصّصت ملامحي وملابسي وشرابي وجزمتي، وجعلتني أشعر بمشاعر عروسة دبّسها أهلها في جوازة صالونات.

بدا لي من خلال استقراء أجواء الغرفة والملامح والنظرات والزفرات، أن وكيل النيابة كان مضطراً لإحسان معاملتي، وأنه كان يتمنى لو أطلقت يده في التعامل معي بما أستحق، بوصفي كاتباً عابثاً يضيع وقت الدولة ومواردها في مناقشة شكوى طلاب منفلتين اخترت لها عنواناً أكثر انفلاتاً، وتأكد ذلك حين استقبل باستنكار بالغ معلومة أنني لست عضواً في نقابة الصحفيين، فتوقف عن استكمال التحقيق الذي كان قد بدأه للتو بسؤالي عن اسمي وسني وعنواني، ثم أخذ نفساً عميقاً وخرج من المكتب، وتركني في خلوة مع سكرتير النيابة الذي أخذ راحته في تعلية صوت شفطاته من كوب الشاي، وهو يواصل تسديد نظراته المستهجنة لمظهري الذي اتضح أن مستوى شياكته لا يرقى إلى مستوى حضرة السكرتير.

كان وكيل النيابة قد أمسك بسماعة التليفون وبدأ في الاتصال برقم ما، ثم توقف ووضع السماعة قبل أن يغادر المكتب، ففهمت أنه كان ينوي الاتصال برئيسه المباشر، المحامي العام أو مساعده، لا أدري، لكنه قرر أن لا يشركني فيما سيقوله، فذهب ليبلغ رئيسه تلك المعلومة الخطيرة التي تكشف تطفلي على بلاط صاحبة الجلالة، وتلويثي لردائها الطاهر النقي، ويبدو أن رئيسه لم يهتم بتلك المعلومة، لأن حضرة الوكيل عاد بعد قُصر غياب مكبوساً محتقن الوجه، لأغالب توتري باستعادة صامتة لمطلع أغنية المطربة نادية مصطفى "جاي في إيه وسافرت في إيه.. وما ريّحتش عندنا ليه"، وقبل أن أبدأ في دندنتها في سري، أكمل وكيل النيابة شرب كوب الليمون، ومسح فمه بمنديل، وأخذ نفساً عميقاً، ربما كان يعبر به عن شكواه من هوانه على رؤسائه الذين حين اختصوه بقضية في غاية التفاهة، لم يطلقوا سراحه لكي يصول ويجول ويعامل المتهم بما يستحقه، وبعد أن طرد هذه الأفكار من رأسه ـ أو لم يطردها لست متأكداً ـ بدأ في استئناف التحقيق بعبارات تلخص التهمة الموجهة لي من قبل الموظف العمومي الذي لجأ إلى الدولة لكي تحميه مني، ثم نظر إلي بوجهه الشمعي الجاد وقال تلك العبارة الشهيرة التي لم أكن أتصور أنها ستخرج من مجالها الحيوي في المسلسلات والأفلام لأسمعها عياناً بياناً: "ما قولك فيما هو منسوب إليك من اتهامات؟".

كنت قد قرررت منذ أن أطمئن قلبي إلى سير القضية وتفاهتها، أن أنتهز الفرصة وأسجل موقفاً يعترض من حيث المبدأ على اعتبار ذوات وأشخاص الموظفين العموميين، أمراً يندرج تحت بند "أمن الدولة العليا"، مؤكداً أنني أحترم الحق في التقاضي وأقدر رغبة الموظف العام في أن يتم إنصافه ممن هاجمه إذا خالف القانون، لكن إدراج هذه البلاغات والقضايا بوصفها من اختصاص نيابة أمن الدولة العليا ومساواتها بجرائم الإرهاب والخيانة العظمى، يشكل افتئاتاً على حرية الرأي والتعبير، وداعياً المشرعين إلى تلافي هذا العوار القانوني الذي لا يليق أن يستمر من أيام اللورد كرومر، ونحن نستعد لدخول القرن الحادي والعشرين الذي يجب أن نتجاوز فيه كل تصوراتنا القديمة عن الصحافة والعمل الحكومي.

حرصت خلال إدلائي بهذه العبارات المبدئية على أن يكون نطقي متأنياً، لكي يتاح للكاتب تسجيلها بدقة، فلا تدخل التاريخ مشوهة أو ناقصة، وكنت أنوي أن أتبعها بفقرة ملحمية أخرى عن أهمية باب بريد القراء ودوره في حماية حقوق المواطنين وممارسة الرقابة على أعمال الموظفين العموميين، لكن وكيل النيابة الذي لم يفارق الامتعاض وجهه منذ بدأت دخول صفحات التاريخ، قرر أن يوقفني عند هذا الحد، ولكنه لم يوجه حديثه لي بل طلب متأففاً من السكرتير أن يتوقف عن التدوين، ثم نظر لي وقال وهو يلزق ابتسامة بالعافية على وجهه: "أظن الموضوع مش مستاهل كده يا أستاذ.. أنا عندي النهارده قضايا كتيرة وعندي تعليمات من هشام بيه إننا نخلص الموضوع بسرعة لإنه فعلا بسيط"، فأخذت أهز رأسي موافقاً وأنا أخفي ضيقي من مقاطعته للعبارات التي اجتهدت في صياغتها خلال غيابه، لكنني لم أفهم ما الذي كان يريده بالضبط، خصوصاً أنه لم يقل لي طلباً محدداً، منذ أن أنهى حديثه بقوله: "اتفضل حضرتك اشرب الليمون، لما بيقعد بيمرّر".

حين بدأت في شرب الليمون قبل ما يمرّر، اتجه وكيل النيابة نحو سكرتيره وسأله عن آخر جملة كتبها فأعاد ما قلته عن كرومر والقرن الحادي والعشرين، فبدا لي الكلام حين سمعته بصوت السكرتير مبالغاً فيه بعض الشيئ، لكني هنأت نفسي على تسجيله في ورق ميري، لتعلم الأجيال القادمة أن هناك كتاباً حين ذهبوا إلى النيابة للتحقيق معهم في موضوع عنوانه (كوكو واوا يا سيادة العميد)، أصروا على تسجيل موقف يدافع عن حرية نقد الموظفين العموميين، وقبل أن تطول فرحتي بنفسي، سمعت صوت وكيل النيابة وهو يقول لسكرتيره: "طيب، اكتب بعد كده: ولذلك فأنا أنكر هذه الاتهامات كاملة، ولم أكن أقصد أي تحقير من شأن مقدم البلاغ، ولا أنوي الحط من قدره".

خلال سيري بصحبة موظف الاستقبال نحو مكتب وكيل النيابة، لم يفارقني مشهد سير عادل إمام في أروقة مبنى مباحث أمن الدولة في فيلم (اللعب مع الكبار)

 

وضعت كوب الليمون، وهممت بإضافة فقرة أؤكد فيها على أن المسألة تتجاوز شخص مقدم البلاغ، فقاطعني وكيل النيابة برفعة يد وشبه زغرة، وقال لي بنفاد صبر: "أنا مقدر كل اللي حضرتك هتقوله.. بس احنا مش اتفقنا إن الموضوع بسيط.. أنا عايز أوفر وقتي ووقتك"، فقررت أن أوازن بين أهمية تسجيل الموقف التاريخي في أوراق التحقيق حتى لو أدى ذلك إلى تعكير صفو علاقتي بوكيل النيابة ودفعه لأن يتغابى علي بأي من الوسائل القانونية التي تكفل له التغابي دون أن يلومه أحد، وبين أهمية أن أخرج من النيابة بسرعة عائداً إلى البيت دون أي خسائر غير ثمن التاكسي ذهاباً وإياباً، وفي لمح البصر اخترت الخروج بسرعة من النيابة، فابتسمت لحضرة وكيل النائب العام الحارس للمجتمع والقيم على ناموسه، معتذراً عن تعطيلي لوقته الثمين، وقضيت بقية التحقيق مخروساً مكبوساً، دافساً بوزي من حين لآخر في كوب الليمون، أستمع إلى وكيل النيابة وهو يسأل بالأصالة عن نفسه، ويجيب بالنيابة عن نفسي إجابات قصيرة محكمة يسد بها ثغرات قانونية لم تكن تخطر على دماغي الممتلئ بكلام لا أول له من آخر عن حرية الصحافة وأمانة الكلمة وحق النقد، في حين أخذ السكرتير المبهر في سرعة تدوينه، يهز رأسه إعجاباً بإجاباتي التي ترد على لسان وكيل النيابة.

في أغلب إجاباتي، حرص وكيل النيابة على تأكيد حسن نيتي في عرض الشكوى التي تقدم بها الطلبة، والتي هي حق قانوني أصيل تكفله حرية الصحافة، ووجه باسمي لوماً إلى عميد الكلية لأنه لم يقم بإرسال رد إلى الصحيفة لكي ينال فرصته في توضيح وجهة نظره للقراء، مع أن حق الرد مكفول، وأكد على أنني لو كنت قد تلقيت رده لأفردت له نفس المساحة التي أفردتها للشكوى، ونفى أن يكون هناك سابق معرفة بيني وبينه، أو بين الطلاب الذين أرسلوا الشكوى، مما ينفي وجود أي شبهة تواطؤ على النيل منه، وقال إن استخدام عنوان (كوكو واوا) كان يهدف إلى إشاعة روح من المرح تخفف من التوتر الموجود بين الطلبة والعميد، وأن العبارة المذكورة لا تخل بالآداب العامة، بدليل أنها أذيعت في إحدى قنوات التلفزيون الرسمي في شهر رمضان الفضيل وفي برنامج موجه للأسرة المصرية، ليصوب سكرتير النيابة إلي في هذا الموضع بالتحديد نظرات متهكمة تقرر عجزي عن الإتيان بمثل هذا البيان القانوني المدهش والمفحم، فرددت عليه بنظرات موافقة تؤكد ذلك.

ما أدهشني أن وكيل النيابة لم يقم بطلسقة الموضوع كما كنت أتصور ـ وأتمنى ـ بل أصر على أن يستوفي كل ما تصور أنه مهم لتغطية الجوانب القانونية للموضوع، فبدا لي كممثل بارع يتجلى في عرض "مونودراما" ويستمتع بحالة الأخذ والرد مع نفسه، وتبهجه فكرة التأليف على الهواء مباشرة، وهو يتخيل النواقص التي يمكن أن يكتشفها أحد ما في إجاباتي ويقوم بسدها، ومع أن بعضاً مما قاله عن سير العمل في الصحيفة، كان ينتمي إلى تراث المسلسلات التلفزيونية التي يحب ممثلوها أن يرددوا عبارات من نوعية "خد المقال ده ونزله المطبعة"، إلا أنني لم أعلق على أي مما قاله سوى بهز الرأس تأييداً ومط الشفاه إعجاباً وتوسيع حدقتي العينين انبهاراً.

بعد أن انتهى وكيل النيابة من وصلته الدرامية الطويلة، أشار إلي ثم إلى أوراق التحقيق بنظرات مرهقة، فسارعت إلى لطع توقيعي الكريم على أوراق التحقيق، وصافحت سيادته بحرارة متجنباً مصافحة السكرتير الذي مد يده لي، معتبراً أن تلك عقوبة مستحقة على نظراته المتعالية علي في البداية، وحين طلب مني وكيل النيابة أن أسلم على أحمد بيه الخواجة، ليذكرني بأنه لم يفعل كل ذلك إلا إكراماً له، قررت أن أسوق فيها وقلت له: "ياريت تبلغ تحياتي لهشام بيه سرايا"، وخرجت من مكتبه وأنا أحاول ضبط نفسي ومنعها من الرقص طرباً بالنجاة السريعة والمدهشة، التي لن يحظى بها المتهمون الذين رأيتهم يسيرون في أروقة النيابة والكلابشات في أيديهم، ولم أكن أعرف أنني سأسير مثلهم بالكلابش في يدي، خلال زيارتي التالية للنيابة، التي لم تكن تجربة مبهجة على الإطلاق، لكنني نجوت منها بأعجوبة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.