كورونا يفضح العلاقة بين المواطن والدولة

كورونا يفضح العلاقة بين المواطن والدولة

14 ابريل 2020
+ الخط -
تختبر المحن والأزمات، أو الكوارث الجماعية، العلاقة بين الدولة والمواطن، العلاقة التي تصفها النظريات بالعقد الجماعي. وأمامنا اليوم أزمة تتبدّى على شكل وباء، تحول بسرعة إلى جائحةٍ تستبيح البشرية بدون استثناء، إذ تقول الأخبار إن ثلاثة مليارات إنسان يعيشون اليوم وفق إجراءات الحجر الصحي الذي وصل، في بعض المناطق، إلى الإغلاق الشامل. فتهديد فيروس كورونا المستجد يتعاظم بالفعل، ويتعاظم معه التهويل الإعلامي، تهديد للحياة بأمراض الفيروس التي ما زالت جوانب كثيرة فيه مجهولة، على الرغم من انشغال العلماء في أطراف الأرض بدراسته، واستقراء الواقع المرضي وصفات الجائحة، لمعرفة كيفية مواجهة هذا العدو الصغير المتربص بالبشرية. وقد ظهر الفيروس أولا في الصين، وتم إشهاره في ديسمبر/ كانون الأول من العام الفائت، وكان ما رشح إلى العالم عن هذه الجائحة مقننًا في البداية، حتى بمواكبتها، وطريقة التعامل معها إلى تراجعها الحالي، ولكن تساؤلات تبقى، مع غموضٍ كثير، أو افتقار للشفافية، وهذا ليس موضوع المقالة، وإنما هو طريقة اتخاذ الإجراءات الحكومية والتدابير الخاصة بالجائحة، وآلية تطبيقها لناحية الحجر الصحي تحديدًا.
اتخذت الصين تدابير عديدة طبقتها بالقوة الصارمة، فبلد تعداد سكانه يفوق المليار وثلاثمئة مليون إنسان ربما يكون من الصعب جدًا محاصرة وباءٍ مهدد من هذا النوع لديه. ولكن هل كان في وسع الشعب الصيني، في تاريخه الحديث على الأقل، وهو المحكوم بنظام شمولي صارم، أن يلتزم فيما لو طبقت إجراءات بطريقة مغايرة؟ رأينا الطائرات المسيّرة تمسح الشوارع في المدن، وتخاطب المخالفين للقواعد الصحية المفروضة، حتى أنها كانت تثير هلع لبعضهم، وكان المخالفون يتعرّضون لعقوبات لم يطلع العالم عليها، ثم إنها تتبعت تحرّكات المواطنين عن طريق هواتفهم، وجمعت بيانات هائلة عن السكان، وشجعت الناس على الإبلاغ عن جيرانهم في حال الاشتباه. أي أنها، في المحصلة، قامت بإجراءات سلطوية وأمنية، من دون الرجوع إلى الشعب وإشراكه في اقتراح الخطط والحلول. وفي المقابل، كانت الدولة واثقة
 من إمكاناتها وقدرتها على التصدّي للوباء، وهذا مفروغ منه بالنسبة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، إن لم يكن قد أصبح، بنقلة خاطفة في زمن كورونا، الأول. وبإمكان الدولة استغلال الموارد البشرية والتقدم التقني والرقمي الذي وصلت إليه. ولكن النظام الشمولي الصارم لم يكن في وارده استطلاع الآراء بشأن الإجراءات المتخذة وتطبيقها والتشاور في مواجهة الأزمة، بل كانت القرارات سياسيةً ملزمة، وعلى الشعب أن يذعن وينفذ. ويعرف هذا الشعب مدى جدّية الدولة وعزمها على تطبيق التعليمات وفرض العقوبات. وفي الوقت نفسه، كان يشعر بالأمان والممنونية تجاه ما وصلت إليه أنظمته من قوة راسخة في كل المجالات، وأنها وقت الخطر أمّنت له الحماية.
في أوروبا، وخصوصا فرنسا وألمانيا، شوهدت النظم السياسية، من ذروة هرم السلطة إلى باقي أركان الحكومة والبرلمانات، تعمل بروح الفريق أولاً، وتحت مظلة الديمقراطية وأصول التداول السياسي في البلاد. لم تتخذ الحكومات أي إجراءات من دون التشاور مع العلماء لديها، ومع بقية مفاصل الدولة، وشكلت خلايا أزمة بمنتهى المسؤولية. وتباينت الإجراءات، من حيث التشدد، بين الدول الأوروبية، خصوصا في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا. خاطبت المستشارة الألمانية، ميركل، الشعب عدة مرات. وهي في حجرها المنزلي الاحتياطي، كانت تقوم 
بمسؤولياتها وتناقش الخطط والتدابير، وتستمع إلى الاقتراحات والانتقادات، لم تفرض الحظر الكامل، لكنها توجهت إلى الشعب بخطابٍ مؤثر، وطلبت منه عدم التهاون في الإجراءات الوقائية، واحترام الصحة العامة والشخصية، وطلبت التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي، وقدّمت الوعود بشأن قيام الدولة بالتزاماتها تجاه الشرائح المتضرّرة بسبب الإجراءات التي تقيدت عامة الشعب بها. كما تقيد الشعب الفرنسي بغالبيته بالإجراءات التي فرضتها الحكومة، وكذلك الشعب الإيطالي. كان السؤال الجاهز دائمًا للطرح أمام أي اقتراح يتعلق بمدى تعارضه مع الحقوق التي نص عليها الدستور، خصوصاً الحريات؟
أما في سورية التي يعاني شعبها من إرث ثقيل لسنوات الحرب، فقد جعلت السلطة إمكانية التعاطي مع الجائحة بحدّها الأدنى أمرًا بالغ الصعوبة، إذ لا يمكن تحقيق التباعد الاجتماعي في ظل الأزمات المعيشية المستفحلة، من مواد غذائية وغاز طبخ ومحروقات وخبز، بالإضافة إلى تقنين الماء والكهرباء، كما أن البنية التحتية شبه منهارة، حتى بالنسبة إلى القطاع الصحي، في ظل الحرب، وهجرة الموارد البشرية، أو خسرانها في الحرب، أو في ظل العقوبات المفروضة على الشعب السوري. ولذلك كان تنفيذ الإجراءات التي أقرّتها الحكومة كما لو أنه يندرج تحت بند قانون الطوارئ أو الأحكام العرفية، علمًا أن القوانين التي صدرت بشأن المخالفات تراوح بين الغرامات المالية والحبس.
ما شوهد في سورية ومصر (مثلاً)، أن المواطنين لم يلتزموا بالأوامر الصادرة إلّا خوفا من بطش الأنظمة، ولأن المواطنين قد ألفوا الفساد، وصار من الوجوه التي لا تسير الأمور بدونها. وقد شوهدت على مواقع التواصل الاجتماعي حالات احتيال كثيرة على الإجراءات بطرق شتى، منها مثلاً محاولة قائمين على المساجد إدخال الأفراد من أبواب خلفية لأداء الصلاة، وكأن منع 
الدولة الصلاة من أجل محاصرة الوباء تستهدف المواطنين ومعتقداتهم، وطالما يمكن تسيير الأمور بطرق ملتوية، فلمَ لا؟ الدولة في منظور عامة الشعب في البلدان المحكومة بهذه الأنظمة هي بمثابة عدو للشعب، ولا تسعى إلى خدمته، ولذلك القرارات المتخذة، وهي غالبًا لا تفي بالغرض وغير مدروسة، سياسية بالدرجة الأولى، وتتعاطى معها الأغلبية بنزعة الاستخفاف المبطّن، وعدم الجدية، لكنها تطبقها بدافع الخوف الأمني، وليس من باب الوعي الصحي.
وتدل هذه النماذج من الإجراءات المتخذة في مواجهة الجائحة العالمية على العلاقة بين المواطن والدولة، ففي الصين هناك جدّية من الشعب في تطبيق القوانين والقرارات الحكومية والتقيد بها، لأن المواطن يعرف أنه يخضع لنظام قوي من الرصد والمراقبة، لكنه أيضا يعلم أن دولته قوية اقتصاديًا، ولا خوف لديه من انهيار حياته. بينما في الدول الأوروبية، دول الديمقراطيات التي وضعها الفيروس أيضًا على المحكّ، يتلقف المواطن القوانين والإجراءات بقناعة وثقة بالحكومة، لأن القرارات ليست فوقية ومركزية، فالحكومة منتخبة من الشعب، والشعب يراقب أداءها. واستطلاع الرأي الذي أجرته أخيراً عدة جهات في ألمانيا وفرنسا يبين أن غالبية الشعب راضية عن الإجراءات المتخذة.
العلاقة بين المواطن والدولة في بلدان عربيةٍ محكومةٍ بأنظمةٍ شمولية، وبظرفها الراهن تحت عبء الحرب، تنافريةٌ سلبية، غير فاعلة، تفتقر إلى الثقة، وقائمة على الخوف والإذعان. فبعد عقود من جلاء الاستعمار وبناء الدول المستقلة، لم تستطع أنظمة الحكم أن توطد علاقة بينها وبين المواطنين، قائمة على الثقة بما مارست من قمع وكم أفواه وتقييد حريات وأساليب سلطوية مجحفة، بغرض الحفاظ على الكرسي بل وتوريثه. مع الزمن، شعر المواطنون بالتغييب شيئًا فشيئًا عن دورهم في صنع حياتهم، في وقتٍ كانت الأنظمة ترفع الشعارات الطنانة، وتدّعي أن السلطة هي سلطة الشعب، فتصدّعت العلاقة بين الدولة، التي هي في الواقع اندمجت كمفهوم في الوعي العام بالحكومة وبالنظام وبالحاكم أيضًا، والمواطن. وأدت ممارسات الأنظمة وتراكم تجاوزاتها إلى تردّ رهيب للأوضاع المجتمعية والقيمية والثقافية. ولذلك فإن سلوك شرائح مجتمعية، عندما تخرق الإجراءات وتخالف التعليمات، بل وتلجأ إلى أساليب الواسطة والرشوة أو المحسوبية للحصول على استثناءات من شمولية التعليمات، سلوكٌ مفهومٌ، باعتباره نتيجة طبيعية لسوء العلاقة مع الدولة، وفشل الأنظمة السياسية في بناء مجتمعاتٍ واعية، ولجوء شعوبها إلى الدين أو القبيلة أو التمسّك بالأعراف والثقافة الموروثة، في تحدّ واضح للعلم وخبراته المتراكمة عبر السنين، وهذا يعكس العلاقة الهشّة بين المواطن والدولة، ويعكس سلطوية الدولة ومركزيتها الكثيفة وافتراقها عن القاعدة.