كورونا .. وباء جائح وخيال جامح

كورونا .. وباء جائح وخيال جامح

08 يونيو 2020
+ الخط -
(1) 
جاء في "لسان العرب" أن الجائحة مشتقة من جَحَا، وجَحا بالمكان أي أقام به، والجائح هو الجراد، ويقال جاحَ الشيء أي استأصله، وأجاحتهم واجتاحتهم أي استأصلت أشياءهم، والجائحة الشـدّة المجتاحة (للشيء أو للمال). ذلك في اللغة، ولكن جائحة كورونا هي هذا الوباء المنتشر من دون توقف ومن دون كوابح، فهو مع شدة اجتياحه الأرض. ولكن يبقى هنالك أمران استعصيا على الناس إلى هذه الساعة. أولهما أنّ أصل هذا الوباء ومصدره الأول ظلّ لغزاً يتجاذبه المتلاومون من كبار زعماء العالم. ذلك كبير الإدارة الأميركية، ترامب، يزأر في وجه زعيم الدولة الأكثر سكانا في العالم، يتهمها بإخفاء سر بداية وباء الكورونا عندهم في مدينة ووهان الصينية. ثم لا تجد الصين ما تدفع به ذلك الاتهام، إلا الطلب من منظمة الصحة العالمية أن ترسل علماءها للتقصّي والتحقيق، إن كان هنالك ما يثبت التهمة عليها، غير أن ذلك يحتاج تحديد بداية زمنية، ليس الآن لأحدٍ أن يقول متى تنتهى هذه الجائحة، أو متى يتيسر أمر ذلك التحقيق المطلوب.
ثاني الأمرين عجز العلماء وأهل الاختصاص في كل معامل الغرب والشرق ومختبراتهما عن التوصل إلى لقاح ينهي هذا الوباء، ويستأصله في أنحاء الأرض. ومن وصل منهم أو كاد إلى الإمساك بخيطٍ يفضي إلى صنع لقاح فعال، فإنه يجزم أن ذلك قد يستغرق أشهرا طوالا.
(2)
يفتح هذان الأمران أبواباً لتخرّصاتٍ تصدُر من هنا أو هناك، ولكنها تبقى محض تخرّصات. ذلك الغموض الذي نتج عن عجزٍ ظاهرٍ يغري بالجنوح إلى التفكير الغرائبي، المفضي إلى طرائق للتفسير قد تجافي العلم تجافيا بعيدا، أو تدنو من الخيال دنوّاً جامحا. ثمّة كاتبة أميركية، هي في الأصل عالمة اجتماع، ألفت كتاباً ممتعاً في شكل تقرير هو كالرواية، عن جماعةٍ من 
العلماء كلفهم زعماء كبار في العالم لدراسة أوضاع العالم وتحليل المخاطر المحدقة به، ثم عليهم اقتراح الحلول الناجعة لتجاوز تلك المخاطر والألفية الثالثة على الأبواب. ذلك التقرير السرّي وتلكم الجماعة جميعها من خيال الكاتبة. اسمها سوزان جورج، وهي من مواليد 1934، وعنوان الكتاب "تقرير لوقانو"، وترجمه إلى العربية السوري محمد مستجير مصطفى بعنوان "مؤامرة الغرب الكبرى"، وصدر في عام 1999. وتحمل الكاتبة الجنسيتين، الأميركية والفرنسية، وقد تخصصت في السياسة والاجتماع، وجل كتاباتها عن العدالة وغياب العدالة الاجتماعية على المستوى العالمي، وتحديدا صناعة الفقر في العالم الثالث ونقص التنمية والديون، وبقية ملامح العالم الرأسمالي الجائر. ترأس الناشطة سوزان جورج حاليا معهدا مختصا بالدراسات العابرة للقوميات في هولندا، وتعد أشرس المنتقدين لسياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهما من منشآت اتفاقية "بريتون وودز" التي اعتمدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية لتنظيم الاقتصاد العالمي.
(3)
نظرتْ عالمة السياسة والاجتماع إلى أحوال العالم، وقدمتْ تحليلاً عن المخاطر التي يتعرّض لها العالم، والتي أجملتها في تناقص الموارد الطبيعية والاستهلاك غير المرشد، وتدهور البيئة الطبيعية، والتباين بين أنماط الاستهلاك والإنتاج بين عالمي الفقراء والأغنياء، أو بصريح العبارة التناقض المفجع بين الشمال والجنوب. وتقع المسؤولية في ذلك على نظام عالمي يفتقر 
إلى العدالة، الموارد أكثرها عند الفقراء، وتصنيعها وإنتاجها عند الأثرياء. وترى سوزان جورج أن تزايد السكان في القرن الحادي والعشرين سيشكل تحدياً متعاظما، وأن عدد سكان العالم سيتضاعف من أربعة مليارات عام 2000، ليصل إلى ثمانية مليارات في العام الحالي (2020). ولا يستقيم الوضع إلا بالتخلص من المليارات الأربعة، يرى العلماء المميزون في العالم والمكلفون بوضع تقرير "لوقارنو" أنه ليس أمام الطرف المتحكّم في العالم إلا السعي إلى اتباع إجراءات علاجية وأخرى وقائية، وليس من دافع أخلاقي يمنع ذلك، طالما أن الهدف هو إنقاذ العالم عبر إنقاص سكانه.
جاء في ذلك التقرير أن إشعال الحروب الأهلية والصراعات الإثنية في البلدان الفقيرة، وبيع الأسلحة الرخيصة الثمن لها، بعض هذه الإجراءات العلاجية لحل معضلة تزايد السكان بغير كوابح. أما الإجراءات الوقائية فربما تبرز الحاجة لإحياء الأمراض والأوبئة القديمة التي كانت شائعة بين الفقراء. ستبرز في النهاية "ضرورة الموت" عاملا مطلوبا لتحقيق التوازن وإنقاص سكان الأرض إلى النصف، قبل حلول العقد الثالث في الألفية الثالثة.
(4)
على الرغم من الصورة الكئيبة التي رسمتها الناشطة الأكاديمية، سوزان جورج (86 عاما)، فإن متابعي طروحاتها يبدون إعجابا بعمقها وصدقيتها، لكنهم يتساءلون على الدوام عمّن هم 
جمهورها الذي تخاطبه هذه السيدة. لقد وضعت كتابها المثير للجدل "تقرير لوقارنو" على ألسنة علماء من صنع خيالها، فيصعب أن يدرك القارئ إن كانت تخاطب زعماء سياسيين من المتحكّمين في مصائر العالم، أو سواهم من المتحكّمين في اقتصاديات العالم، أم لا هؤلاء ولا أولئك، بل هي تطرح أفكارها للتأثير على الرأي العام لدى الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها؟ أوردت سوزان جورج تحليلاً رصيناً في كتابها، له أسانيده ومرجعياته في إحصائيات حقيقية ودقيقة، صادرة عن هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها، وعن مراكز دراسات وبحوث ذات أهلية ومصداقية.
(5)
لعلك، أيها القارئ الكريم، تقف مثلي وقفة جادّة في الطرح الذي قدمته هذه السيدة، ونشرته قبل نحو عقدين. لقد لمّحت إلى رؤيةٍ بنتها على تلكم الإحصائيات الدقيقة، لعل أهمها ما اتصل بالانفجار السكاني والأجندات المطلوبة لتحقيق عدالة سياسية واقتصادية واجتماعية. طرحٌ جامح قد يفضي إلى إنقاذ الغرب والعالم الرأسمالي من انهيارات محدقة، لكنه يلمح بوضوح ما ينطوي عليه ذلك من تضحياتٍ بقيم أخلاقية وإنسانية لا تقبل التغييب.