كورونا ظاهرةً بلاغية

كورونا ظاهرةً بلاغية

06 مارس 2020
+ الخط -
يشعر الإنسان المعافى من أي مرض، في هذه الأيام، بأنه قاب قوسين أو أدنى من أن يقع ضحية لفيروس كورونا في نسخته الجديدة، التي سُمِّيَت للتمييز عن النسخة القديمة "كوفيد 19"، حتى وإن كانت الاحتياطات التي اتخذها لحماية نفسه من العدوى مثالية ومستوفية لشروط السلامة.
الإلحاح الإعلامي على اقتراب الخطر من أي إنسان، حتى وإن كان في منأىً، لجهة الظروف الصحية وعدم الاتصال مع أي بيئة موبوءة، بات يشبه الهوس بالقيامات الألفية، حيث لا بد للمصابين بالهلوسات من تذكيرنا، بين حين وآخر، باقتراب القيامة وظهور علامات الساعة، وما يترتب على هذا من ضرورات التحاق المرء بمواكب المستغفرين، حتى وإن كان مؤمناً مطمئناً إلى ما فعل! الأمر الذي كانت تستجيب له سينما الكوارث، فتصنع الشركات المنتجة نسخاً متكرّرة من أفلام تروج لتدمير العالم بسيناريوهات مختلفة، تبرز منها الكارثة الفيروسية القاتلة.
وفي عديد من أشكال التنبيهات والإشارات التي يكرّرها الإعلام عن الخطر المحيق بالبشرية من فيروس كورونا، ينساق الإعلاميون إلى استخدام لغةٍ قريبة من لغات الكتب المقدسة فعلاً. ففي العنوان المفزع الذي يجري اختياره، تنام رغبةٌ مضمرةٌ بالإيمان الراسخ بوقوع كارثة فانية من نوع ما، تتكفل بالقضاء على البشر جميعاً، ولا بأس إن كان العنوان بليغاً ليعبّر عمّا سبق، بما أن عناوين الصحف ومقدمات نشرات الأخبار في القنوات التلفزيونية قد حيدت كل الكوارث البشرية من حروب ومجازر، وجعلت من الفيروس مادتها الأولى. وهل ثمّة مناسبة أفضل من هذه لإظهار الثراء القاتم والمفجع للغات البشرية؟
لا تصلح البلاغة للتعبير عن الوباء. وهي لا تصلح أصلاً للاستخدام في اللغة الإخبارية. إذ يحتاج الصحافي عدّة مختلفة عن تلك التي يستخدمها الشاعر والقاص والروائي. وحين يضطر أحد ما 
للجوء إلى المجاز للتعبير عن هول تأثير المرض الذي يتربص بالبشر، لا بد أن نسأل أنفسنا: أي إحساسٍ بالجمال سيلحق بما هو غير قابل للتجميل؟
أمراض عدّة مرت على البشرية، ولا سيما في الأزمنة التي عايشها من يقرأون ويتابعون أخبار الفيروس، لكنّ أيّاً منها لم يصل الاحتفاء به إلى ما وصل إليه حال كورونا. لن نتذكر هنا إنفلونزا الطيور فقط أو شقيقتها إنفلونزا الخنازير، بل سنتذكر بحسرة أيضاً السارس وإيبولا، وصولاً إلى الإيدز. كانت أمراضاً محبوسة ضمن حيّزها المرضي التقليدي، بينما صار طيف كورونا يجول حول المعمورة كشبح مرعب، يفجر الطاقة اللغوية لدى المتحدثين عنه، كما يفجر أعلى درجات العنصرية تجاه الثقافات المختلفة التي يُحال نشوء المرض إلى عاداتها الخاصة بالمأكل والمشرب. لقد بات طعام الصينيين هو المشكلة. وبدلاً من معالجة التكوين الشاذ للفيروس الذي يمكن أن ينشأ مصادفةً في بيئة مختلفة أيضاً، يجد كثيرون أن المصيبة تفرض عليهم سياق "تظارفٍ" يجعلهم يرفعون لافتةً تنهى الصينيين عن أكل أي شيء.
وفي السياق ذاته، نتذكر تلك الحملات التي تستهدف ثقافات المختلفين، فتضع مأكلهم في واجهة المثالب، وصولاً إلى سحنات الوجوه وشكل العيون؛ أي قباحة تماثل هذه التي تحملها مشاهد استهداف الصينيين في العالم بعبارات "كورونا .. كورونا"، وهي ترافق مرورهم في أي مكان؟.
إدخال المشتبه في إصابتهم بأعراض الفيروس إلى الحجر الصحي أسبوعين لم يعد مستغرباً، ما دام هو الإجراء الأفضل لمحاصرة انتشاره حتى توافر اللقاح المناسب. كذلك لن يكون مستغرباً إيقاف كل الدول، بحكوماتها ومؤسساتها كل الأنشطة التي يمكن أن يجتمع فيها البشر جماعات، ما يؤدي إلى توسع الإصابات. ولكن المستغرب حقاً في كل ما يجري، هو الإصرار على النظر إلى الفيروس مبتوراً عن السياق الذي يحتمل ولادته فيه، وكذلك ولادة فيروسات أخرى تشبهه، وقد تكون أخطر منه. ألا يضعنا هذا في مواجهة تجاهل العالم المتقدم برمته لعدم وجود استراتيجيات حماية تضع في حسبانها مليارات البشر الذين لا يخضعون لبرامج صحية مثالية، تقيهم خطر التعرّض لهذا الفيروس أو ذاك.
لا يمكن حقاً تفسير ارتهان العالم الراهن، على الرغم مما وصل إليه من تقدّم علمي وحضاري، 
إلى وقوع خلل ما يؤدي إلى ولادة نسخة قاتلة فتاكة من أحد الفيروسات، من دون تخليص هذا العالم المتقدّم ذاته من اعتداده بنفسه، وبقوة حضارته، وثقته بإمكاناته الجبارة في القضاء على كل ما يهدّده.
وفي الآن نفسه، على العالم أن يتخلص من انتهازيته، ونفاقه، وتجاهله الأخطار المماثلة التي يمثلها وجود أنظمةٍ تُبيد شعوبها، يُسكَت عنها بسبب ارتباطها بنيوياً بسياق متواطأ عليه، قوامه نهب مقدّرات الشعوب وثرواتها، من دون أن تستفيد مما تملكه، حتى في بناء خدمات صحية مناسبة. وهذا فعلياً غير ممكن، ما دامت تلك الشرائح الاجتماعية التي تسيطر عليه، وتتحكم بقواه وثرواته وإعلامه أيضاً، لا ترى سوى ذاتها ومصالحها، فتغمض عيونها عمّا يجري في الأقاصي البعيدة، ولا تستنفر قواها لمعالجة الأزمات إلا إن اقتربت منها.
كان من الممكن أن يغضّ العالم الطرف عن كورونا، لو بقي محصوراً بالبؤرة الصينية، حيث سيُقال، في هذه الحالة، لينزع الصينيون شوكهم بأيديهم. ولكنه لسوء الحظ لم يبقَ مجرد أزمة صحية محلية، بل صار أزمة عالمية. ولهذا توجب على الجميع أن يعيدوا حساباتهم، بما أن انتقال المرض بات ممكناً وبأسرع مما توقع كثيرون.