كوربين.. نهاية رجل شجاع

كوربين.. نهاية رجل شجاع

20 ديسمبر 2019
+ الخط -
من الصعب الجزم إذا ما كان "بريكست" وحده المسؤول عن الهزيمة الساحقة التي لحقت بزعيم حزب العمال البريطاني، جيريمي كوربين، سيما وأن هذا اليساري العتيد رفض تبنّي خيار بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، أو إجراء استفتاء ثان صراحة، إلا أن حصر أسباب خسارة الحزب وزعيمه في الانتخابات العامة أخيرا بقضية "بريكست" يشبه إخفاء الغابة بشجرة، فقد تعرّض كوربين وحزبه إلى حملات مضادّة، كان أبشعها رمي الرجل بتهم معاداة السامية، لا لشيء إلا بسبب موقفه الشجاع المناهض للاحتلال الإسرائيلي والمؤيد للحقوق الفلسطينية المشروعة. والحال هذه ليست جديدة على كوربين، فقد خاض غمار الانتخابات في العام 2015 تحت عاصفةٍ من التشويه والتشهير، وموجات متلاحقة من الابتزاز الشخصي. 
ويُخفي "سيف اللاسامية" المُشرع في وجه كوربين وتياره داخل الحزب غايات وأجندات متقاطعة لأطراف ثلاثة. يتقدم هذه الأطراف "اللوبي الصهيوني" الذي طالما تذمر من مواقف حزب العمال منذ غياب توني بلير المعروف بمواقفه الداعمة لإسرائيل. وقد بدأ هجوم منظمات اللوبي الصهيوني على حزب العمال بشكل واضح في العام 2014، بعد تصويت كتلة الحزب في مجلس العموم البريطاني، لصالح الاعتراف غير الملزم بالدولة الفلسطينية. ومنذ تلك اللحظة، أعلنت شخصيات وجماعات ضغط مؤيدة لإسرائيل كثيرة عن وقف دعمها المادي وتأييدها لحزب العمال في الانتخابات العامة لعام 2015. وتصاعد غضب المنظمات المؤيدة لإسرائيل منذ صعود جيريمي كوربين لقيادة الحزب، وهو المعروف بمناصرته لقضية الشعب الفلسطيني، وانتقاداته الصريحة لإسرائيل. و لم يعد خافياً كيف تُوظّف تنظيمات اللوبي الصهيوني فزاعة "معاداة السامية" لتشويه خصوم إسرائيل، وثني الرأي العام الغربي عن التعاطف مع الحقوق الفلسطينية، ودفع الناس إلى تقبل الرواية الصهيونية على علاتها. وفي المقابل، تُبدع المنظمات الصهيونية في استثمار "منجم الوجع" اليهودي لابتزاز العالم الحر، مادّياً وأخلاقياً.
أما الطرف الثاني الذي وجد في "اللاسامية" سيفاً للانقضاض على كوربين وتياره اليساري الراديكالي داخل حزب العمال، فيضم منافسي كوربين من "البليريين"، نسبة لتوني بلير، حيث يسعى هؤلاء إلى استعادة قيادة الحزب، وتقويض كوربين وتياره اليساري، وإعادة الحزب نحو "يسار الوسط"، بعد تخليصه من هيمنة النقابات المهنية، وبقايا الحرس القديم. ويرى "البليريون" أن قيادة كوربين تتّبع سياساتٍ فشلت في مواجهة تحدّي "بريكست"، وتكرّس نهجاً يهدّد بتقويض الاقتصاد البريطاني، سعياً منه إلى تحقيق أهدافٍ أيديولوجية". وتتكامل أضلاع المثلث الضاغط على زعيم حزب العمال بحملات التحريض التي يخوضها حزب المحافظين ضد كوربين وحزبه، للهروب من حالة الاحتقان التي يعيشها المشهد السياسي البريطاني منذ استفتاء العام 2016، وفشل حكومات المحافظين المتتالية في تحقيق أي تقدم على صعيد المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.
أسباب أخرى تعاضدت لإلحاق هزيمة تاريخية بحزب العمال، منها شخصية كوربين التي لم تكن بالقوة الكافية لمنافسة شخصية خصمه، زعيم حزب المحافظين، بوريس جونسون، صاحب الخطاب الشعبوي. كما كان للبرنامج الانتخابي لحزب العمال أثر صادم على الناخبين، بعدما تراجع عن وعود رئيسية، مثل الرعاية المجانية للمسنين، وإلغاء رسوم التعليم الجامعي، وخفض سن التصويت. ثم هناك ارتباك استراتيجية الانتخابات، إذ تبنى حزب العمال استراتيجية خاطئة، بحيث أهمل الدوائر المحسوبة له، وكثف دعايته في مناطق معروفة بتأييد حزب المحافظين، ما منح المحافظين فرصة كسب دوائر جديدة من معاقل حزب العمال.
قد تكون انتخابات 2019 آخر جولات كوربين السياسية، بعد أن قضى نحو 36 سنة نائباً في البرلمان، مدافعا صلبا وشجاع عن العدالة الاجتماعية والمساواة، ومناهضا قويا للملكية، داعيا إلى التحول إلى النظام الجمهوري الديمقراطي. يقترب جيريمي كوربين من خط النهاية في مشوار حياته السياسي، من دون الوصول إلى مقر رئاسة الحكومة في داوننغ ستريت، ولو كُتب له ذلك لكان: "أول رئيس حزب بريطاني يأتي تماماً من خارج المؤسسة السياسية البريطانية التقليدية منذ مارغريت تاتشر في عام 1975"، كما قال عنه الصحافي البريطاني بيتر أوربون.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.