كوارث وجماهير

كوارث وجماهير

15 نوفمبر 2014
+ الخط -

أسوأ العبارات الشائعة في الكتابات السياسية العربية هي "ما أشبه اليوم بالبارحة"، كأن الحياة العربية لا تتقدم إلى الأمام على الإطلاق، بل تدور وتعود، في كل مرة، إلى نقطة البداية. ولابن رجب الحنبلي كتاب عنوانه "فضل علم السلف على علم الخلف"، ويُنسب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز قوله "مَن كانوا قبلكم أعلم منكم"، وهذا غير صحيح بالتأكيد. وحتى توفيق الحكيم كتب مسرحية "أهل الكهف" في سنة 1936، ليشير إلى انتصار الماضي على الحاضر. فالتاريخ لدينا لا يسير إلى الأمام، بل يعود القهقرى دائماً، فالكمال يبدأ من حادثةٍ معينةٍ قديمةٍ، كميلاد المسيح مثلاً، أو الهجرة النبوية، وكل ابتعاد عن هذه الحادثة هو نقصان، وكل عودة إليها هو اكتمال. وبهذا السير إلى الوراء، عَلِق الناس في شراك التشرنق، أي البقاء في الماضي.
* * *
إن الكتلة البشرية التي تشرنقت عقولها، وتسربلت بالخوف من كل جديد، هي "الجماهير". والجماهير تعني، إيجاباً، الحشود المنظمة والواعية التي تخرج إلى الميادين للمطالبة بحقوقها، أو للاحتجاج على الحكام. لكنها تعني، سلباً، رعاع المدن وأوباش الأرياف والأرزقية الذين يحصِّلون معاشهم من وضع أنفسهم في خدمة السلطات الظالمة والزعماء المتسلطين. وقد كانت كلمة "الجماهير" مقدسة لدى اليسار العربي، في طور صعوده، واضمحلت هذه القداسة بالتدريج، بعدما تبين أن الجماهير ربما تصبح فاشية في أحيان كثيرة، ولا سيما في الحروب الأهلية، حين تتحول إلى ميليشيات متقاتلة، كما حدث في لبنان والعراق وسورية، أو تكون غير مبالية في أحيان أخرى. ففي فبراير/شباط 1958، بعد توقيع جمال عبد الناصر وشكري القوتلي ميثاق الوحدة السورية – المصرية، نامت الجماهير السورية في شوارع دمشق لرؤية عبد الناصر والاستماع إليه. وفي سبتمبر/أيلول 1961 لم تنزل الجماهير نفسها إلى الشوارع في تظاهرة واحدة دفاعاً عن الوحدة التي قضى عليها ضباط سوريون. وقبل ذلك، إبّان الخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب على قضايا الحريات والدستور، سارت الجماهير في شوارع القاهرة، وهي تردد: "لا حرية ولا دستور". وكثيراً ما ينصرف الذهن عند ورود كلمة "الجماهير" إلى ما تحمله كلمة العوام من معنى سلبي. ومن باب الفكاهة، نذكر أن في إحدى قرى بعلبك في لبنان، في بداية القرن العشرين، كان إمام المسجد يلقي خطبة الجمعة، فقال: "إن هناك شخصاً يدعى داروين، يزعم ان أصل الإنسان قرد. طيب، أنا قد أقبل أن يكون أصل سلالتي من القرود. وربما يقبل بعضكم هذا الأمر. لكن، هل من الممكن أن يكون أصل الأئمة قروداً؟". فهاجت الجماهير مستنكرة، وهددت بالويل والثبور وخرجت للعثور على داروين وقتله (إنها فكاهة واقعية).
* * *
قدّست "الماوية" الجماهير، ورأت أن الحكمة هي ما تعتقده الجماهير وما تراه. وفي إحدى المرات، حطت مجموعة فلسطينية شبه ماوية رحالها في خراج إحدى القرى في الجنوب اللبناني، إبّان صعود اليسار في سبعينيات القرن المنصرم. وفي أول يوم جمعة، ذهب الجميع إلى الصلاة في مسجد القرية، مراعاة للجماهير، فلم يجدوا مَن يصلي غير إمام المسجد وبعض كبار السن ممن اعتادوا المجيء إلى المسجد للتسلية وتزجية الوقت. ورغب أعضاء في نادٍ للعراة في استضافة راهب ليلقي فيهم محاضرة عن الدين والمجتمع. ومراعاة له، قرر أعضاء النادي الحضور بثيابهم الكاملة، غير أن الراهب، مسايرة لهم ولجماهير النادي، قرر أن يخلع ثوبه الكهنوتي، وولج القاعة عارياً تماماً. فمرحى للجماهير العربية الغفيرة والغفورة والمتذررة والمتناثرة بين حداثة فشلت و"إسلام" من عيار أبو بكر البغدادي أو الفاتح الجولاني، وأفّاقون من جميع الأعيرة.