كنت مريداً لعلي جمعة [1 /2]

كنت مريداً لعلي جمعة [1 /2]

10 ديسمبر 2015
من السلطان حسن إلى دار الإفتاء (Getty)
+ الخط -

إمام وثلاثة صفوف
في منطقتنا كان مسجد السلطان حسن، مسجداً مهجوراً، أقرب للمتحف منه لمسجد عامر بالمصلين، تمر السنون ويتنادى الشباب أن هناك شيخاً جديداً اعتلى منبر المسجد، فتحمسنا لرؤيته والاستماع للدرس فيما بعد الخطبة، كان ثمة حنين وشوق لشيخ أزهري يكسر تلك الصورة النمطية للأزهري التابع للسلطة "الموظف" الذي يقتات من صندوق النذور، وقد كان الرجل بارعاً في رسم تلك الشخصية المستقلة القوية بملابسه المهندمة شديدة الوجاهة وتلك السيارة الفارهة التي يركبها وهو يودعنا في نهاية اليوم، ثلاثة صفوف فقط يتقدمها "الشيخ" علي جمعة، كان هذا كل رصيد الرجل في المسجد، ليمتلئ المسجد بعدها بآلاف المصلين الذين كانوا يبحثون عن البضاعة ذاتها في الرجل الغامض!


استنساخ محمد الغزالي
بمهارة عجيبة استطاع علي جمعة أن يحجب عنا أي انتماء فكري يمكن أن نصنفه من خلاله، وربما كان ذلك داعيا لتعلق الكثيرين به، كان ثمة رغبة لدى مريديه أن يظل الرجل بعيدا عن التصنيف، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، فكان مجلسه يمتلئ بالأزاهرة والصوفية والسلفية والإخوان وغيرهم، مزيج عجيب اجتمع على الإعجاب بـ"الشيخ" والتأثر به، وكم وجهت له من أسئلة في درس العلم، فكان يجيب عنها بسخرية، كونها أسئلة تصنيفية ربما يظهر من إجاباتها اتجاه معين، فيلقيها أرضا، شعر الجميع بتيار جديد، وهم يرون أمامهم عمة أزهرية ناصعة قوية لم يروا لها مثيلا منذ أن وارى الثرى الشيخ محمد الغزالي الذي كان جمعة يشبهه في جوانب عدة، منها سعة الاطلاع ومجاراة الأحداث والأفق الواسع في التعامل مع قضايا الأمة الراهنة، عوامل عدة جعلت شهرة جمعة تتجاوز مسجد السلطان حسن، ويتلقفها الإعلام في وقت كانت بضاعة التدين سلعة رائجة.

ضد الحكومة
كانت الأجواء في مجلس جمعة في مسجد السلطان حسن إيمانية بامتياز، خطبة قصيرة مؤثرة،  يتبعها درس فقهي من متن أبي شجاع، ثم فقرة أسئلة تناقش كل مناحي الحياة، لم يكسر تلك الرتابة في الدرس سوى انطلاق انتفاضة الأقصى في بداية الألفية، شعر الرجل بغضب الحشود المكبوت، فألقى خطبة نارية طاول فيها انتقاده حسني مبارك شخصيا، فاشتعل المسجد بالتكبير وكادت أن تنطلق مظاهرة حاشدة لا تقل عن خمسة آلاف مصلٍ في منطقة من أهم مناطق القاهرة الفاطمية، لكن جمعة أدرك الموقف بذكاء، فامتص غضب المصلين، وبدلا من انطلاق مسيرة حاشدة، أشار على الناس بالدعاء والذكر الجماعي، فتحول المسجد إلى حضرة صوفية كبيرة! نجح جمعة وقتها في امتصاص غضب الجماهير والأمن كذلك، وتفادى أن يغلق المسجد أو أن تحاصره قوات الأمن في الجمعة القادمة، وهو ما كان على كل حال.

وجها لوجه
كنت ذلك المريد النشط الذي لا يترك مكانا تطأه قدم "الشيخ" حتى يكون حاضرا فيه، من السلطان حسن إلى رواق الأتراك إلى مضيفة الشيخ مصطفى العدوي، كلها أماكن نشط فيها علي جمعة، وألقى فيها دروس العلم، وكنت فيها حاضرا شاهدا، وذات يوم فوجئت باستضافة كليتي (كلية الإعلام) لعلي جمعة وشيخ آخر كان محسوبا على الحزب الوطني، وكم كانت دهشة الزملاء كبيرة حينما سلمت على جمعة وقبلت يده!! في حين اكتفيت بالسلام على الشيخ المرافق، كان تقبيل يد جمعة تقليدا أسبوعيا لدى مريديه من كل التيارات في المسجد، المهم أنني استفدت كمريد من وجود جمعة في الكلية، فقدمت له بنفسي كوبا من الشاي، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث حول الدين والانتفاضة والعلم، ولا أخفيكم أنه أثار إعجاب الكلية كلها وقتئذ وكنت فخورا بذلك.. وقتها.

من السلطان حسن إلى دار الإفتاء
في نشرة أخبار التاسعة يعلن المذيع تعيين الرئيس للدكتور علي جمعة مفتيا للديار، كانت فرحتنا بذلك الخبر عظيمة، تبادل مريدو الشيخ الاتصالات والتهاني والتعجب كذلك! كيف يتم اختيار رجل كهذا في منصب كهذا، ألا يعلمون أن الرجل "ضد الدولة" وأنه لا يترك فرصة إلا وينقد ويجلد ظهر الحكومة؟ ولحسن نوايانا ظننا أنه ربما يكون الاختيار رغبة ما في "الإصلاح"! وأذكر جيدا أنني تبادلت التهنئة مع صديق لي من المريدين كذلك، وكان كل أمانينا ألا يفتن الرجل بالمنصب.

وللمرة الأولى يحضر جمعة إلى الدرس أو الخطبة وبصحبته حارس خاص وتنتظره في الخارج المرسيدس السوداء الفارهة، كان ثمة تغير في الرجل، لكنه لم يكن ملموسا ظاهرا في حينه، لكنه بات أكثر ظهورا في الإعلام وضيفا في كل البرامج تقريبا، وبدأنا "كمريدين" نلحظ تضاداً ما بين جمعة الشيخ المعمم الأزهري المستقل، وبين جمعة موظف الدولة صاحب المرسيدس الفارهة.

حرام حرام... حلال حلال
قلّت تلك المساحة التي كان يخصصها جمعة للسلطان حسن ومريديه، فتقلص الدرس أو ألغي أحيانا كثيرة، وفي أحيان أكثر كان يغيب جمعة عن المسجد ويصعد مكانه غلام شاب صغير البنية يسمى "أسامة الأزهري" وبالرغم من تمكّنه من الخطابة إلا أنه لم يستطع أن يسد الفراغ الذي تركه جمعة لدى مريديه، وفي المرات القليلة التي كان يحضر فيها جمعة للمسجد بدأ مريدوه يلاحظون ذلك التغير في الفتوى والرأي، فبعد أن كان رأي جمعة في النقاب أنه "واجب عند الشافعي" أصبح النقاب "بدعة" وعادة جاهلية! وبعد أن كانت فوائد البنوك أمرا مختلفا فيه، أصبحت حلالا بواحا، وقس على هذا كثير من القضايا والمشكلات التي تقولبت فيها آراء جمعة مع اتجاه الدولة بعد أن كانت على النقيض منها، بدأنا كمريدين نشعر بتقلص مساحة الأزهري المستقل ذي العمة الشامخة ليحل محلها الأزهري "الموظف" الذي يقتات من راتب المفتي، حتى العمة المميزة التي كان يرتديها جمعة، وكانت أقرب لعلماء الشام، غيّرها الرجل واستبدلها بأخرى توأم للراحل سيد طنطاوي!... يتبع.

(مصر)

دلالات

المساهمون