كنائس فلسطين تقاوم

كنائس فلسطين تقاوم

01 مارس 2018
+ الخط -
قرار الحكومة الإسرائيلية "تجميد" خطواتها نحو تشريع قانون يجيز مصادرة أراض من الكنائس في محيط القدس الشرقية، جرى بيعها بعد العام 2010 لشركات إسرائيلية، و"تعليق" فرض ضرائب على أملاكٍ وعقاراتٍ ومؤسساتٍ طبيةٍ وتربويةٍ تابعة للكنائس، لا يخرج هذا القرار عن وصفه احتيالا من سلطة الاحتلال، ربما لشراء بعض الوقت، أو مناورةً بانتظار مستجداتٍ ستفتعلها السلطة المذكورة، بغرض استهداف الفلسطينيين المسيحيين في القدس المحتلة. ذلك أن الليكوديين وعناصر حزب البيت اليهودي المستوطنين وأحزاب عنصرية أخرى، في تشكيلة مجلس ما تسمى بلدية القدس، لن يكفّوا عن ابتداع محاولاتٍ أخرى في السعي الإسرائيلي النشط باتجاه فرض أمرٍ واقعٍ جديد في القدس الشرقية، يقوم أساسا على إنفاذ قرار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل الذي أعلنته الدولة العبرية أياما بعد الاحتلال في يونيو/ حزيران 1967، والذي أراد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أخيرا، "شرعنته" عالميا. 

وإذا كان الفاتيكان قد رفض، منذ اليوم الأول لذلك الاحتلال قبل أزيد من خمسين عاما، القرار الإسرائيلي. وإذا كانت ضغوطه قد ساهمت في ثني حكومة بنيامين نتنياهو عن المضي بقرارها الأخرق، إلزام الكنائس المسيحية في المدينة المقدسة بدفع "ديونٍ مستحقة" لدولة الاحتلال بملايين الدولارات، في خداعٍ مكشوف بشأن ضرائب تريد فرضها على مدارس ومستوصفات وأملاك وعقارات تملكها الكنائس، إذا كان الأمران يُحسبان للفاتيكان، فإن ثبات البطريركية الأرثوذكسية اليونانية والبطريركية الأرمنية والراعية الكاثوليكية على رفض المطلب الإسرائيلي هو ما اضطر الاحتلال لقرار "التجميد" و"التعليق"، وهو المطلب الذي لا يخفى أن من أغراضه انتزاع اعتراف هذه الكنائس (والفلسطينيين المسيحيين) بانتساب القدس الشرقية، بما فيها من مقدساتٍ مسيحيةٍ وإسلامية، إلى دولة الاحتلال. وإذ لم يكتف رؤساء الكنائس الثلاثة ببيان يؤكد هذا الرفض، فإن مبادرتهم إلى خطوةٍ جريئةٍ وشجاعةٍ (مع ما يحفّ بها من محاذير واعتبارات)، وهي إغلاق كنيسة القيامة (كما في إبريل/ نيسان 1990 يومين، احتجاجا على احتلال جمعيةٍ استيطانيةٍ مبنىً في ديرٍ مقابل الكنيسة)، أظهرت للعالم أن للتدبير الإسرائيلي مخاطره، وأن العالم مطالبٌ بالانتباه إلى كل ما تصنعه سلطة الاحتلال في مدينة القدس التي نصّ القانون الدولي على وضعها الخاص، ولم يعترف بخرافة أنها عاصمة إسرائيل الموحدة إلى الأبد.
تبعث محاولتا فرض ضرائب غير قانونيةٍ على أملاك الكنائس في فلسطين، ومصادرة أملاك باعتها الكنائس (لماذا بيعت؟) إلى شركاتٍ إسرائيليةٍ خاصة (الأوْلى في عرف حكومة نتنياهو بيعها للمستوطنين وجمعياتهم!)، ثم قرار المرجعيات الكنسية العليا إغلاق كنيسة القيامة احتجاجا، ثم تجميد الاحتلال محاولتيْه، تبعث هذه الوقائع حزمة عظاتٍ ومعطياتٍ تتعلق بأوضاع الفلسطينيين المسيحيين في وطنهم، منها أن التخطيط الإسرائيلي ضدهم، وضد أماكن عباداتهم، لم يتوقف يوما، وأن التضييق عليهم متواصل، بغرض فرض حقائق تدفعهم إلى مزيدٍ من الهجرة. وهم الذين تتناقص أعدادهم بفداحةٍ، فبعد أن كانوا نحو 20% من تعداد الفلسطينيين، عشية نكبة 1948، فإنهم اليوم في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة نحو خمسين ألفا، أي أقل من 2%، ولا يتعدّى عددهم في القدس الشرقية خمسة آلاف، غير أن نضالهم الوطني ضمن الرؤية الكفاحية الفلسطينية العامة حافظ دائما، وبوضوحٍ عروبيٍّ مؤكد، على عدم مهادنة الاحتلال في أيٍّ من مخططاته. وهذه معركة الكنائس محطةٌ جديدةٌ، موصولةٌ بجولاتٍ وفيرةٍ في المسار نفسه، ما يوجب على المتن الفلسطيني كله، في تكويناته الرسمية والأهلية، الحكومية والمجتمعية، الانتباه إلى ما تعمل عليه العصابة الإسرائيلية الحاكمة بشأن الفلسطينيين المسيحيين، سكان الوطن الأصلانيين. وكان في محله تماما أن البيان الذي أعلن فيه رؤساء الكنائس الثلاثة إغلاق كنيسة القيامة جاء على أن من أغراض قصة الضرائب تلك "إضعاف الوجود المسيحي في القدس". وكان نابها في البيان نفسه أنه شبّه القرار الإسرائيلي بالقوانين التي سُنّت ضد اليهود في فتراتٍ ظلاميةٍ في أوروبا.
قصارى القول إن الفلسطينيين مدعوون إلى عدم الاستهانة بما ينشط فيه العنصريون في الأحزاب الدينية في الحكومة والبرلمان و"بلدية القدس" بشأن المسيحيين، وإلى تظهير هذا الأمر باعتباره تحدّيا لم تهمله إسرائيل، والمرجّح، بل المؤكد، أن تعليق نتنياهو قراراته أخيرا ستعقبُه جولاتٌ أخرى من الاحتيال والخداع..
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".