10 ابريل 2019
كل هذه التماسيح في مصر والسودان
يُعتبر مشهد التماسيح في جنوب الوادي طبيعياً عند انحسار نهر النيل، وفي أوقات معلومة من السنة، لكن ظهورها، وبشكل لافت، في شمال الوادي غريبٌ بعض الشيء، إلى درجة أن ربطه بعضهم بالحالة السياسية التي يمكن أن تظهر معها كائنات الأرض مشاركة في الاحتجاج.
تشبه قصص التماسيح، هذه الأيام، إلى حٍّد بعيد، أساطير السحر قبل مئات السنين في جزر وقرى ترقد على ضفاف النيل في شمال السودان. صنعت هذه الأساطير الظروف اليومية لردع الصبية الصغار من ارتياد بساتين النخل والمانغو في ساعات النهار، حينما يخلد المزارعون للنوم وقت القيلولة. وعادة ما تُروى القصص عن مشاهدة أحدهم طيفاً أسود، يركض في حقول الذرة الرفيعة، أو شبح امرأة بشعةٍ، تمت مشاهدته في ظلال المغيب، أو تمساح ضربه أحدهم بحربة، فتحول إلى كائن آخر، يظهر بين فينة وأخرى لينتقم، إن لم يقدّموا له القرابين، حتى صارت حكاياتٍ تتعدى حدود القرية المنسوجة فيها، وتطير إلى قرى أخرى في المنطقة.
تعوّد السودانيون على طول ضفاف النيل، مروراً بالعاصمة الخرطوم، والتي على الرغم من الضجيج والكثافة السكانية العالية، إلّا أنّ انحناءات النهر تضمن بيئة مُستحبة لهذه التماسيح، ثم صعوداً إلى الشمال، وحتى الوصول إلى مصر.
ألفة المشاهد حتى المفزعة منها جعل التمساح يدخل في فضاء الثقافة الشعبية السودانية، على الرغم مما يشكّله ظهوره من اضطراب كبير في حياة السكان، خصوصاً الذين يعتمدون، في كسب عيشهم، على الزراعة على ضفتي النيل. وتزداد خطورتها، حينما تظهر أنواع ضخمة، يمكن أن يصل طول الواحد منها إلى عشرة أمتار، ويُدعى "العُشاري"، وهو من أكثر التماسيح شهرة في السودان، لشراسته وقوته، وهذا بالمناسبة اسم متداول بين المواطنين.
ولهذا، نجد التمساح يظهر في نسيج الحكايات والأمثال، ويُشبّه به الفارس الذي لا يُهزم، وهو تشبيه ينمّ عن إدراك الذّهنية الشّعبية العميق خطورته وقوته. بل وصل إلى إدخاله في كرامات الأولياء، كما ورد في قصّة حوار لشيخ يُدعى "قنديل الدهب"، والذي اختطفه التّمساح من على شاطئ بلدةٍ مشهورةٍ بسادتها المتصوفة، فأصبح الناس يستنجدون بذاك الشيخ الذي تصدّى للتمساح، وأنقذ منه تلميذه. ولما تغيّر الزمان، ظلّ التمساح بطلاً لهذه الثقافة. ولكن، في إشارة أخرى إلى حالات الفساد التي انتشرت، في الآونة الأخيرة، فتحوّر الآن ليصبح رمزاً للجشع، ولمن يعتدون على الأموال ظلماً وعدواناً.
أمّا في مصر، فظهور التماسيح، وأشهرها تمساح "مسطرد" بداية هذا الشهر، فقد صاحبته
إسقاطات نفسية كثيرة لذيول نظام عبد الفتاح السيسي. وهي لا تخرج كثيراً عن رؤية فرويد لها باعتبارها حيلة نفسية. وهنا، ينسب الموالون للنظام سماتهم الذاتية وميولهم الملتبسة في التمساح ككائن وصلوا إلى درجة تغييب وعي الناس عنه، بقصة بلغت من السذاجة شأواً عظيماً، هي أنّ جماعة الإخوان المسلمين هم من ألقوا به خارج النيل، لإحداث الزعزعة والفوضى. فالإسقاط هنا لا يقتصر على كونه حيلة دفاعية، وإنّما يُفهم بالمعنى الواسع للفظه، كما يوضح فرويد أيضاً. وهنا، أيضاً تظهر المحاولة المستميتة لإخفاء الحكومة قصورها وإهمالها في كل شيء، مثل سيول الإسكندرية، لتركّب التهمة على عدوٍّ جاهز. والقصة ليست إيهام فقط للرأي العام، بل صاحبها قولٌ صريح إنّ خليّة إخوانية سدّت مصارف المياه في الإسكندرية، ما عرّضها للغرق فى مياه المطر. وأنّ تمساح ترعة الإسماعلية في منطقة مسطرد وتماسيح أخرى هي إخوانية باقتدار.
قصة ممجوجة. ولكن، من يبحث عن تبريرٍ يفعل أكثر مما فعله صاحب مقطع فيديو معمل تفريخ التماسيح، المتداول هذه الأيام. يقول صاحب المقطع الذي يدّعي أنّ الفيديو تم تصويره بمعرفة المخابرات المصرية التي يعلّق شعارها على الشاشة، طوال مدة المقطع. يقول كتابة على شريط يمرّ أيضاً في أثناء عرض الفيديو أنّ التصوير من داخل معامل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لتفريخ التماسيح، وذلك لنشرها في الترع لترويع المواطنين الشرفاء. ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف إنّ من يقومون بعمليات التفريخ هم مختصون من التنظيم الدولي للإخوان، تم جلبهم من الخارج من الأنفاق عن طريق غزة، ويظهر هذا، حسب قوله، من حديثهم باللغة الإنجليزية، حتى لا ينكشف أمرهم.
لا شكّ أنّ ناشر المقطع بلغ من عدم الوعي بما بثّه مبلغاً عظيماً، فالمشاهد العادي يدرك من طبيعة التصوير الهادئ أنّ هذا المعمل في مكان ما على هذه الأرض، والموظفة الأجنبية التي تعمل على عملية التفريخ مختصة ترتدي زيّاً رسمياً، يوضح اسم مؤسستها العلمية في الغالب. ولكن الغريب هو الزّج بالإخوان المسلمين، وبلوغ درجة من التوتر بالزّج أيضاً بأنفاق غزة، ما لا يتسقّ لا مع شكل المقطع، ولا وظيفته الواضحة للعيان.
هذا المقطع الموتور لمجهولٍ لم يقابله تصريح رسمي ينفي، على الأقل، وجود المخابرات في هذا الموضع، بل على الأرجح وقع موقعاً حسناً بإضافات أخرى من بعض الانتهازيين ممن يطمعون في موقعٍ ما في نظامٍ متهالكٍ، يقتات على هذه الشائعات التي لن تبقيه على قيد الحياة طويلاً.
من يتأمل ميثولوجيا التماسيح هذه، يجدها في السودان تمثّل تحدياً أرعن يشبه، في أحيانٍ كثيرة، قرارات النظام الحاكم. بينما في مصر تأتي الأسطورة المنسوجة حول التماسيح مثل بناءٍ يتمّ تشييده منذ انقلاب السيسي، لتمكين المصريين من مواجهة حيرتهم إزاء استشراء ظواهر الفساد والظلم. ولكي تتيح نسقاً من الفهم والتفسير لوجود جهاتٍ تتحمل فظائع النظام. وفي الوقت نفسه، تزيح عن كاهله المساءلة وتنتقم من عدوه.
تشبه قصص التماسيح، هذه الأيام، إلى حٍّد بعيد، أساطير السحر قبل مئات السنين في جزر وقرى ترقد على ضفاف النيل في شمال السودان. صنعت هذه الأساطير الظروف اليومية لردع الصبية الصغار من ارتياد بساتين النخل والمانغو في ساعات النهار، حينما يخلد المزارعون للنوم وقت القيلولة. وعادة ما تُروى القصص عن مشاهدة أحدهم طيفاً أسود، يركض في حقول الذرة الرفيعة، أو شبح امرأة بشعةٍ، تمت مشاهدته في ظلال المغيب، أو تمساح ضربه أحدهم بحربة، فتحول إلى كائن آخر، يظهر بين فينة وأخرى لينتقم، إن لم يقدّموا له القرابين، حتى صارت حكاياتٍ تتعدى حدود القرية المنسوجة فيها، وتطير إلى قرى أخرى في المنطقة.
تعوّد السودانيون على طول ضفاف النيل، مروراً بالعاصمة الخرطوم، والتي على الرغم من الضجيج والكثافة السكانية العالية، إلّا أنّ انحناءات النهر تضمن بيئة مُستحبة لهذه التماسيح، ثم صعوداً إلى الشمال، وحتى الوصول إلى مصر.
ألفة المشاهد حتى المفزعة منها جعل التمساح يدخل في فضاء الثقافة الشعبية السودانية، على الرغم مما يشكّله ظهوره من اضطراب كبير في حياة السكان، خصوصاً الذين يعتمدون، في كسب عيشهم، على الزراعة على ضفتي النيل. وتزداد خطورتها، حينما تظهر أنواع ضخمة، يمكن أن يصل طول الواحد منها إلى عشرة أمتار، ويُدعى "العُشاري"، وهو من أكثر التماسيح شهرة في السودان، لشراسته وقوته، وهذا بالمناسبة اسم متداول بين المواطنين.
ولهذا، نجد التمساح يظهر في نسيج الحكايات والأمثال، ويُشبّه به الفارس الذي لا يُهزم، وهو تشبيه ينمّ عن إدراك الذّهنية الشّعبية العميق خطورته وقوته. بل وصل إلى إدخاله في كرامات الأولياء، كما ورد في قصّة حوار لشيخ يُدعى "قنديل الدهب"، والذي اختطفه التّمساح من على شاطئ بلدةٍ مشهورةٍ بسادتها المتصوفة، فأصبح الناس يستنجدون بذاك الشيخ الذي تصدّى للتمساح، وأنقذ منه تلميذه. ولما تغيّر الزمان، ظلّ التمساح بطلاً لهذه الثقافة. ولكن، في إشارة أخرى إلى حالات الفساد التي انتشرت، في الآونة الأخيرة، فتحوّر الآن ليصبح رمزاً للجشع، ولمن يعتدون على الأموال ظلماً وعدواناً.
أمّا في مصر، فظهور التماسيح، وأشهرها تمساح "مسطرد" بداية هذا الشهر، فقد صاحبته
قصة ممجوجة. ولكن، من يبحث عن تبريرٍ يفعل أكثر مما فعله صاحب مقطع فيديو معمل تفريخ التماسيح، المتداول هذه الأيام. يقول صاحب المقطع الذي يدّعي أنّ الفيديو تم تصويره بمعرفة المخابرات المصرية التي يعلّق شعارها على الشاشة، طوال مدة المقطع. يقول كتابة على شريط يمرّ أيضاً في أثناء عرض الفيديو أنّ التصوير من داخل معامل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لتفريخ التماسيح، وذلك لنشرها في الترع لترويع المواطنين الشرفاء. ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف إنّ من يقومون بعمليات التفريخ هم مختصون من التنظيم الدولي للإخوان، تم جلبهم من الخارج من الأنفاق عن طريق غزة، ويظهر هذا، حسب قوله، من حديثهم باللغة الإنجليزية، حتى لا ينكشف أمرهم.
لا شكّ أنّ ناشر المقطع بلغ من عدم الوعي بما بثّه مبلغاً عظيماً، فالمشاهد العادي يدرك من طبيعة التصوير الهادئ أنّ هذا المعمل في مكان ما على هذه الأرض، والموظفة الأجنبية التي تعمل على عملية التفريخ مختصة ترتدي زيّاً رسمياً، يوضح اسم مؤسستها العلمية في الغالب. ولكن الغريب هو الزّج بالإخوان المسلمين، وبلوغ درجة من التوتر بالزّج أيضاً بأنفاق غزة، ما لا يتسقّ لا مع شكل المقطع، ولا وظيفته الواضحة للعيان.
هذا المقطع الموتور لمجهولٍ لم يقابله تصريح رسمي ينفي، على الأقل، وجود المخابرات في هذا الموضع، بل على الأرجح وقع موقعاً حسناً بإضافات أخرى من بعض الانتهازيين ممن يطمعون في موقعٍ ما في نظامٍ متهالكٍ، يقتات على هذه الشائعات التي لن تبقيه على قيد الحياة طويلاً.
من يتأمل ميثولوجيا التماسيح هذه، يجدها في السودان تمثّل تحدياً أرعن يشبه، في أحيانٍ كثيرة، قرارات النظام الحاكم. بينما في مصر تأتي الأسطورة المنسوجة حول التماسيح مثل بناءٍ يتمّ تشييده منذ انقلاب السيسي، لتمكين المصريين من مواجهة حيرتهم إزاء استشراء ظواهر الفساد والظلم. ولكي تتيح نسقاً من الفهم والتفسير لوجود جهاتٍ تتحمل فظائع النظام. وفي الوقت نفسه، تزيح عن كاهله المساءلة وتنتقم من عدوه.