كل مونديال وأنتم ضحايا

كل مونديال وأنتم ضحايا

12 يونيو 2014
غرافيتي برازيلي مناهض لـ الفيفا
+ الخط -

"أغبياء أولئك الذين لا يحبّون كرة القدم". هذا الاقتباس منسوبٌ إلى أحد أشهر الكتّاب البرازيليين المعاصرين، خورخي أمادو، صاحب روايتَي "دونا فلور وزوجاها" و"كانكان العوام الذي مات مرتين" وغيرهما، والذي يقام مونديال كأس العالم لكرة القدم هذا العام في بلاده، خلال الفترة الممتدة من 12 حزيران/ يونيو وحتى 13 تموز/ يوليو.

على رغم حدّته، يبدو كلام أمادو عادياً بل وأقلّ من عاديّ في البرازيل، التي تدخل كرة القدم بقوّة في مكوّنها الثقافي، ولا يمكن النظر إلى مجرى الحياة هناك بمعزل عن اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وحجم تشابكها مع صفوف الغالبية الساحقة من السكان ونسيج المجتمع بأعمّ طبقاته وفئاته؛ بصفتها جزءاً من شخصية الفرد على اختلاف مشربه ومنبته وانتمائه ومركزه الاجتماعي. باختصار، هي أشبه ما تكون بقيمةٍ مستمدّة من منظومة التقاليد، فضلاً عن كونها ثقافة شعبية في غاية العفوية ولا تحمل طابعاً نخبوياً، نجحتْ في إملاء منطقها على كثيرٍ من الأشياء.

وقلّما يجتمع العالم على شيء مثلما يفعل مرةً كلّ أربع سنوات لمتابعة "المونديال"، كما صار يكفي التفوّه بهذه الكلمة ليعرف المستمع حول ماذا يدور الكلام. تسعفنا القواميس الإنجليزية في تقصّي أصل وفصل كلمة "مونديال" Mondial، فجذورها القريبة زمنياً فرنسية، لكنها تُردّ أبعد من ذلك إلى الكلمة اللاتينية mundus التي تقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة World، وتعني "العالم". أما كلمة Mondial بحسب قاموس أوكسفورد فهي تؤشر إلى شيء ما؛ حدث أو فعالية أو مناسبة، يشترك فيها العالم بأجمعه. وهي على أحد أوجهها "لغة"، بحسب الشاعر والكاتب والمخرج الإيطالي باولو بازوليني في توصيفه لكرة القدم، تتكلّم بها البشرية وتعني ما تقوله تماماً من دون حاجةٍ إلى ترجمة، أسوة بالموسيقى. فلا غرابة إذن في وصف ما يقوم به لاعبٌ بأنه "عزفٌ موسيقي" يجمع بين المتعة والمهارة الفنية.

حديثاً، صرّحت رئيسة البرازيل "ديلما روسيف" بأنها جمعت صور لاعبي المنتخبات الـ 32 المشاركة في المونديال، ونجحت في إكمال صور الألبوم البالغ عددها 640. في أغلب المناسبات السياسية، كانت تتطرقّ إلى المونديال في بلادها بلا ميول ملتبسة ومن دون أن تضعه بين قوسين، كأنه ميثاق تعايش أو كتابٌ قيد النشر.

على رغم مسحته التسويقية، فإن تكاتفاً كهذا مع المونديال العالمي من أعلى الهرم السياسي "هناك" يتّسق إلى حدٍّ كبير مع مؤسسسات المجتمع التي تسير في ذات الاتجاه. أما "هنا"، فالنهج والاتساق ليسا مماثلين، إذ طالما حوكمت كرة القدم - والرياضة عموماً - من منظور سياسي بحت، يُخشى على أحدٍ أن يصاب بهوسها، نظير كونها أداةً إلهائية في يد السلطة الرامية، بأنواعها الفردية والاندماجية، إلى تحريك أو تخدير الشعوب.

إسقاطٌ كهذا يجرّد اللعبة الشعبية الأولى في العالم من أي مقاربة لها بالفنون، ولو من بعيد؛ أي بوصفها ضرورةً فنية و"ثقافة حماسية" تختزن قوةً احتجاجية قابلة للإنفجار، كما حدث مثلاً في مونديال كأس العالم 1982 الذي أقيم في إسبانيا، متزامناً مع حصار بيروت ومذبحة صبرا وشاتيلا، حيث قام المنتخب الإيطالي الذي توّج بالبطولة آنذاك بإهدائها للمقاومة الفلسطينية تضامناً مع نضالها وصمودها في وجه الاجتياح الإسرائيلي.

لذا، وفي حالتنا العربية التي لا يزال مرماها يتلقّى أهدافاً دموية، تبدو كرة القدم والمونديال العالمي محكومين غالباً بالجفاء من طبقة الأنتلجنسيا على وجه الخصوص التي يبدو أنها بحاجة إلى عين ثالثة، فضلاً عن أنّ المأخوذين براهنية الحدث السياسي قد عبّأوا طاقاتهم وروّضوا أنفسهم للتعالي على "رفاهية" كرة القدم وتهميشها، كي لا نقول تحقيرها. بل وجد بعضهم فيها عنصر اتهام، ومثّلت لديه مؤشر انحلالٍ وطني ضمن تصوّر الثقافة التي يطرحها، عبر مقارنة الكرات المملوءة بالهواء بتلك المحشوّة بالبارود، وانقسام شاشة العالم إلى قسمين: قسمٌ تُقتنصُ فيه الأهداف وآخر تُقنصُ فيه الضحايا.

قسوة غير مبررة كهذه تنطوي على مفارقة لا موضع لها هنا، وقد يبهتُ تميّزها الآن لجهة تزامن مونديال البرازيل 2014 مع حالةٍ سياسية عربية مثقلة بحصيلة من الآلام التي لا تسمح بمجال كبير للفرح، وتعوزها تفصيلات يختصم فيها كثيرون، سيّما أن جزءاً من تاريخنا العربي المشترك في العصر الحديث يشهدُ كم قطعت الرياضة بلا تردّد مع السياسة، وخفّفتْ كثيراً من منسوب الخيبات.

دلالات

المساهمون