كلّما أدرك أن الوقت تأخّر

كلّما أدرك أن الوقت تأخّر

08 أكتوبر 2016
هاني علقم/ الأردن
+ الخط -
قرأ الرسالة ثم وضع هاتفه جانباً. تقول إنها لن تأتي لرؤيته الليلة. ممتاز. البطولة غداً وهو يحتاج كل ما يملك من طاقة. ستة أسابيع شاقة مرّت منذ أن اقترح بخجل على الكابتن أن يُشركه في البطولة ليكتشف أن اسمه قد أُرسل للمنظمين دون علمه. ملأ طنجرة صغيرة بالماء ووضعها على النار، ثم شق عبوة واقي الأسنان وقرأ التعليمات المرفقة.

نظر إلى الماء الذي بدأ سطحه يهتزّ وفكّر مرة أخرى في السيناريوهات المحتملة. من الممكن أن يلاقي ضبعاً آخر يمسح به الأرض على الملأ، أو أن يتلقى لكمة في الجولة الأولى تُفقده الوعي، أو – وهو الأمر الأسوأ – أن تخذله أعصابه فينسحب.

سمع صوت الماء يغلي فأزاحه عن النار ثم أسقط فيه واقِي الأسنان وعيّر دقيقة على ساعته. ملأ وعاء آخر بماء بارد وتناول مِغرفاً وعاد ينظر إلى الساعة. عند تمام الدقيقة، أخرج الواقي من الماء المغلي ثم غمره في الماء البارد لثانية واحدة، ثم وضعه في فمه وعضّ عليه. شعر به ساخناً طريّاً يغمر أسنانه العلوية من كل الجهات، لا طعم له ولا رائحة. عضّ عليه وضغط بأصابعه على شفته العليا ليُحكم الواقي على أسنانه ولثّته، بينما دفع بلسانه بقوة ليلتصق الواقي بلثته وأسنانه من الداخل. عدّ ثلاثين ثانية ثم أخرجه من فمه. نظر إليه مشوّهاً آخذاً شكل طواحينه وطعنات أسنانه المنتظمة بعمق متفاوت. أعاده إلى الماء البارد ثم وضعه على المنضدة.

عادَ إلى غرفته ونظر إلى الأغراض التي ستلزمه. زوجان من لفافات الأيدي، شورت، جوارب طويلة، حذاء ملاكمة بعنق طويل، واقي رأس، قلم ودفتر صغير وعبوة فازلين.

وضعها كلها بترتيب في حقيبة الرياضة التي استخدمها سابقاً لمعدات كرة القدم والنادي. جلس عارياً على سريره وأخذ يفكّر في ما قاله الكابتن، إنه سريع خفيف الحركة بالنسبة لحجمه ووزنه، إن طول ذراعيه ميزة هامة، إنه يتعلم بسرعة ويستخدم عقله داخل الحلبة، وأخيراً، والأهم من ذلك كله، إن له قلب مقاتل. حاول سائد استجماع كل المرات التي أبلى فيها بلاء حسناً خلال الأسابيع الست الماضية، وذكّر نفسه بكل ما عرفه عن نفسه من قوة وسرعة وحِنكَةٍ، سواء في الحلبة أو خارجها. لكنه مهما حاول، لم يستطع التخلص من شعور قض مضجعه طوال الأسابيع الستة السابقة وازدادت حدته باقتراب موعد البطولة، وهو أنه مرعوب.

نظر إلى مُسجّله وهم بتشغيله ولكنه تراجع. فتح الحقيبة وتناول قفازيه ثم وقف ورفع قبضتيه أمام وجهه وأخذ خطوتين تقودهما يساره نحو المرآة. وجد وجهه متوارياً وراء قفازيه لا يظهر منه إلا عيناه والشق في حاجبه وجبينه. تذكر ما قاله الكابتن عن ضرورة إبقاء ذقنه مخبوءاً. خفض ذقنه على رقبته ووجد أن ملامحه أصبحت أكثر عدوانية. عليه أن يتذكر أن يفعل ذلك في الحلبة. نظر إلى جسده الذي ظهرت فيه خطوط لم يلحظها من قبل. رمى ببطء يساراً ثم يميناً ثم يساراً جانبية وحاول تخيّل وقعها على خصمه. تخيّل أن خصمه تفاداها جميعاً وردّ عليه بصاعدة أصابته. ارتبك ثم ضم كوعيه ليغلق الفجوة المؤدية إلى ذقنه.

عاد وجلس على السرير ورمى القفازين في الحقيبة. توجّه إلى الثلاجة والتقط الواقي الذي أخذ شكل فكّه وأسنانه فأصبح عريضاً لا يسع في عبوته، ثم عاد إلى الغرفة. أخرج الواقي القديم من الحقيبة ورماه خلف ظهره ثم جرّب الجديد. شعر به يلبس أسنانه وقد أخذ شكلها دون أي فراغات على عكس سابقه الذي أعدّه على عجل بعد زيارته الأولى للنادي. نظر إلى المرآة ولاحظ شفته العليا بارزة يظهر من تحتها الواقي الأسودَ. خفض ذقنه وارتفع بؤبؤا عينيه ووضع قبضتيه بجانب رأسه. مقاتل، قال لنفسه.

تمنى لو يصبّ لنفسه كأساً من الويسكي يركّز به أعصابه، ولكن الكابتن قال له إن كل رشفة كحول أو سحبة تبغ سيدفع ثمنها في الحلبة، وإن الحلبة آخر مكان في العالم يريد أن يدخله وعليه ديون. كانت الساعة ما زالت العاشرة. عرف أنه لن يستطيع النوم وأن الجلوس والتفكير وتقليب الأمور في رأسه ستستهلك أعصابه تماماً. قرّر أن يتابع فيلماً على الإنترنت ليلهي نفسه. أضاء جهازه ووضعه على السرير بجانبه بينما أرخى ظهره على الجدار. أدخل في محرك البحث "أفلام كاملة" فظهرت مجموعة أفلام عن هجمات الحادي عشر من أيلول، نظريات مؤامرة لا تنتهي ولا تهمّه. حرك المؤشر حول الشاشة ونقر فيلماً آخر فاستمر الباحث في اقتراح الوثائقيات وسائد يتنقل بينها دون أن يشغلّها، وثائقيات عن المسيحيين المتجددين في الولايات المتحدة، وثائقيات عن السجون في الولايات المتحدة، وثائقيات عن العصابات العنصرية في الولايات المتحدة، وثائقيات عن المستوطنين شاهدها جميعاً.

حرّك المؤشر لآخر الصفحة فوجد وثائقيات عن محمد علي كلاي ظهرت بعدها وثائقيات عن حياة الملاكمين بعد تقاعدهم، ثم وثائقيات عن غاندي ومانديللا والأم تيريزا في كمبوديا، تلتها وثائقيات عن مذابح الخمير الحمر، وثائقيات عن مذابح الأرمن، وثائقيات عن مذبحة نانجينغ، عن مذابح الملك ليوبولد في الكونغو، عن مذابح التوتسي في رواندا، عن مذابح الصرب في البوسنة، عن تل الزعتر، عن الحرب الأهلية اللبنانية، عن الخادمات في لبنان، عن الخادمات في دبي، عن عمال البناء في الخليج، عن أكبر مشاريع بناء في العالم، عن انهيار الأسواق العالمية، عن البنوك، عن بيوت الدعارة في إيران، عن بيوت الدعارة في البرازيل، عن الحمامات العامة في تركيا، عن كمال باشا أتاتورك، عن صدام حسين، عن قاعة الخلد، عن الحرب العراقية الإيرانية، عن اجتياح الكويت، عن حرب الخليج الأولى، عن الحرب الباردة، عن الاتحاد السوفييتي، عن أزمة الرهائن، عن أسامة بن لادن، عن الملا عمر، عن بادر ماينهوف، عن الجيش الأحمر الياباني، عن المقاتلين الشيشان، عن حزب الله، عن حماس، عن حرب السبعة وستين، عن الملك حسين، عن أيلول الأسود، عن أولمبياد ميونخ، عن الجمباز، عن ناديا كومينيتشي، عن عدائين أفارقة، عن فريق الملاكمة الكوبي عام ١٩٨٢، عن تاريخ لعبة الهوكي، عن تطور الكرة الطائرة، عن طائرة الشواطئ. توقف للحظة. ممتاز، قال لنفسه. فيلم وثائقي يتتبع جميلتين تُحضّران لبطولة طائرة شاطئية. اختاره.

شَغَلَت جميلات كرة الطائرة الشاطئية عينيه، بينما سرحت أفكاره في سيناريوهات انتهت أغلبها به ممداً على أرض الحلبة. ذهب إلى الحمّام دون أن يوقف الوثائقي، ثم عاد ونسيه وأخذ يعبث بقفازاته مجدداً. تساءل: على وجه من ستقع هذه غداً؟ أو لا تقع. نظر إلى الساعة فوجدها ما زالت العاشرة والثلث.

قرّر أن يذهب في جولة ليلية سريعة يعود بعدها وينام. ارتدى ملابسه على عجل ونزل إلى السيارة حيث وجد أنه نسي النافذة مفتوحة. مدّ يده من خلالها وفتح الباب ثم جلس خلف المقود. بصعوبة بحث عن مفاتيحه في جيوبه. شغل السيارة وانطلق ناظراً أمامه إلى الطريق الممتد في تلك المدينة التي تتألق ليلاً بأضوائها ولوحاتها الإعلانية، مخفية أرصفتها غير المنتظمة وما كُتب على جدرانها من شعارات. انطلق بسرعة رغم الازدحام، وأخذ يمرّ بين السيارات ويغيّر بين المسارب مثل مراهق متعجرف. عند بوادر توقف السير، انعطف بحدّة ليدخل أول شارعٍ فرعي. فعلها عدة مرات حتى وصل إلى تقاطع انقلبت إشارته حمراء قبل أن يعبر بلحظة. ضرب المكابح بقوة ثم رفع الهاندبريك ونظر حوله. مقاهٍ عديدة مملوءة وشبان وشابات في كل مكان. لمح شاباً طويلاً ذا بنية قوية يسير برفقة فتاتين. أهذا خصمه غداً؟ فكّر ثم تدارك نفسه. الناس هنا لا يلاكمون. عاد وتساءل: وإن كان هو، أيمكنني هزيمته؟ أو ذاك الجالس هناك؟ أو ذلك القصير المفتول العضلات الذي يقف بجوار سيارته ذات البابين؟ أيمكنني هزيمته داخل الحلبة أو خارجها؟

سمع أبواق السيارات خلفه فأدرك أن الإشارة انقلبت خضراء. أخذ المسرب اليمين وسار ببطء حتى وجد مكاناً للاصطفاف. نزل من السيارة وأخذ ينظر إلى كل شاب يصادفه، يقيسه طولاً وعرضاً باحثاً عن ملامح ذكاء أو غباء، قوة أو ضعف، ويُقدّر إن كان يستطيع هزيمته في عراك أو نزال. كان جوابه في الأغلبية الساحقة من الأحيان هي نعم مطمئنة، ولكن المرتين أو ثلاثا التي وجد فيها نفسه غير متأكد سببت له الضيق.

عاد إلى سيارته وشغّل المحرّك فوجد مؤشر الحرارة قد اقترب من المنطقة الحمراء. أطفأ المحرّك. فكّر أن يتصل بأمه. ماذا يقول لها؟ عندي نزال غداً وأنا أرتعد خوفاً؟ قلّب بين الأسماء في هاتفه فظهر اسم جاد ثم دينا ثم سعد ثم نارت وكثيرون غيرهم. جميعهم سيحاولون إقناعه بأن لا يذهب غداً إن أفصح لهم عما يؤرقه، ولم يكن هذا ما يريد سماعه.

أدار المحرك واتجه إلى البيت مُختاراً شوارع فرعية. ركن السيارة أسفل البيت وأطفأها ولكنه بقي جالساً وراء المقود. العتمة تامة ولا صوت إلا صفارة إنذار سيارة شرطة في المدى البعيد. أخذ يتأمل الشارع الخالي من أمامه والشجر الذي يحتل الرصيف. لماذا؟ سأل نفسه. لماذا يذهب غداً؟ لماذا يلتزم مع نادي سقف الحيط؟ هو ليس مضطراً.

دخل الشقة ووصل إلى غرفته عارياً. تناول الأغراض عن سريره ووضعها في الحقيبة. انسلّ تحت الغطاء ثم أطفأ الضوء بعد أن نظر إلى الساعة فوجدها قد قاربت منتصف الليل. رفع لحافه ثم التف على جنبه وأغمض عينيه.

في الثالثة صباحاً كان ما زال يبحلق في السقف. كلما أدرك أن الوقت تأخر وأنه خسر وقت نوم ثمين يؤثر على أدائه في الحلبة ازداد توتره وابتعد عنه النوم أكثر. فكّر بالجهد الذي وضعه في الأسابيع الماضية، بكل المرات التي انسحب فيها المكتب مبكراً والاجتماعات التي اختلقها ليذهب إلى النادي، كل المرات التي ألغى فيها خططاً مع دينا، كيف تمرّن صباحاً ومساء كل جمعة وسبت منذ أن أخبره الكابتن أنه قد زجّ به في البطولة، وكيف شعر بالفخر ونقم عليه وشتمه في سرّه في الوقت نفسه.

في السادسة وثلاث وأربعين دقيقة، انتفض من نومه. نظر بسرعة إلى الساعة وهدأ لما وجد أنه أفاق قبل انطلاق المنبّه. شغّل الموسيقى ثم ذهب إلى المطبخ لتناول فطورٍ تماماً كما حدد له الكابتن. بيضتان وخبز، ثم حبوب شوفان عليها عسل وموزتان مقطعتان، وكأس عصير برتقال طازج. بعد ذلك أخذ شاوراً وارتدى ملابسه ثم خرج.

عندما وصل إلى النادي وجد الكابتن والتوأم ينتظرونه في حافلة صغيرة. صعد بصمت ثم جلس بجانب الكابتن وأمام التوأمين. بَسْمَلَ السائق قبل أن يتحرك ثم وقف على إشارات ضوئية بعد دقائق. شعر بالكابتن ينظر إليه. "خايف؟" سأل الكابتن ولم يُجِب. “منيح" قال الكابتن، "لو قلت مش خايف كان نزلّتك هان".

نظر من الشباك إلى شوارع الشرقية الغريبة عليه. مَعِدته فيها شعور غريب كأنها فارغة لا شيء فيها سوى ماء بارد. مرّ حوالي عشرين دقيقة قبل أن يخرجوا عن الطريق الرئيسي إلى شوارع فرعية استمعوا خلالها إلى السائق يغني فوق صوت جورج وسّوف كأنه يعلّمه. خرجوا إلى شارع رئيسي آخر يلتف حول حيّ مزدحم، ثم تلكّأت الحافلة على طلعة قوية مرتين وعرف موقعهم في الجزء الشرقي من المدينة من أسماء البقالات. كلما شعر أنهم اقتربوا ازداد توتره ورغب أن تطول الطريق أكثر، رغب أن يتلقى المدرب مكالمة تقول إن البطولة قد أُلغيت، أو أن يتوهوا في المدينة ثم يلتفوا عائدين فتحميه حجة مقنعة خارجة عن إرادته. انعطفوا ونزلوا منحدراً في منتصفه إشارة مرور وبدأ الكابتن يلملم أغراضه فبدأ نبض سائد يتسارع وازدادت البرودة والغثيان في أحشائه.

أخذ السائق يساراً ودخل متاهة أخرى انتهت في شارع فيه جموع وحركة كثيرة. اصطف مقابل بيت على مدخله لوحة تقول "اتحاد خريجي جامعات الاتحاد السوفييتي". على باب البيت طوابير متفرجين ينسلّ الملاكمون بمحاذاتها بوجوههم الجادة. "مش ناوي تفتح الباب؟" قال الكابتن الذي بدأ يحيي أصدقاء ومعارف فور نزوله، عدد منهم من ذوي الأنوف المطفوسة. تابع الكابتن طريقه وتبعه الشباب الثلاثة ليدخلوا صالة خرجوا منها إلى بلكونة تفضي إلى باحة خلفية نُصبت فيها خيمة بلاستيكية ضخمة تُغطي ثلاث حلبات.

في الحلبات المرتفعة كانت النزالات قد بدأت. سمع المدربين يصرخون التعليمات لملاكميهم، ورأى حكَماً يتحرك بخفة حول الملاكمين المنشغلين بتحطيم بعضهم بعضاً، يصل عرقهم ودمهم أحياناً طاولة تجلس إليها لجنة تحكيم.

تبع الكابتن الذي شقّ طريقه إلى أن وصل إلى مجموعة كراسٍ وضعت في دائرة، على أحدها ورقة كتب عليها "نادي سقف الحيط الأولمبي". "استنو هان"، قال الكابتن ثم اختفى بين الجموع. تابع نزالاً يجري في الحلبة القريبة. كانت تلك نزالات وزن الذبابة. ملاكمون سريعون ذو أحجام صغيرة ومهارة عالية ولياقة لا تستنفذها أربع جولات ولكمات لا تُبشّر بقاضية. سمع جرس نهاية الجولة ورأى كل ملاكم يعود إلى زاويته حيث صعد مدربه ومقطّبه حاملين معهما مقعداً صغيراً. في الحلبة المجاورة أمسك الحكم برسغي ملاكمين ثم رفع أحدها. في البعيدة، حشر ملاكم خصمه في الزاوية وانهال عليه لكماً.

لاحظ إن التوأم لبسا ملابس الملاكمة تحت ملابسهما العادية، فيما افترض هو وجود غرف غيار. غيّر ملابسه بسرعة جالساً في مقعده. نظر إلى التوأمين مرة أخرى فوجد عمّار يلف قبضات ياسر. "تخفش هسا بفضالك"، قال عمار لما لحظه ينظر إليه. عاد الكابتن وقال له أن يتبعه. وصلوا إلى طاولة وراءها رجلان في الخمسينيات من العمر يلبسان قمصاناً مقلّمة وربطات عنق مرخية. “وينه" سأل الإداري فأشار الكابتن له أن يقترب.

- الاسم
- سائد حبجوقة
- الرباعي، قاطعه الإداري
- سائد أحمد سعد الدين حبجوقة
- سعد الدين شو؟
- حبجوقة، ثم كرّر اسمه مرة أخرى
- حبْ جوووو قْ قَه، قال المسؤول ببطء وهو يخط اسم سائد على بطاقة صغيرة ليدسهّا في وعاء زجاجي.
- شركسي، قال الكابتن.
- والله والنِعم، ردّ الإداري.
- أكم ملاكم بوزن المتوسط في لهسّة؟
- ثلاث مع زلمتَك.
- بس ثلاث؟ سأل الكابتن وأومأ الإداري بصمت.

عاد الكابتن وسائد إلى حيث التوأمين وكان عمار قد انتهى من لف يَدَي ياسر، ووقف ياسر يلكُمُ قبضتيه بكفيه ويُلاكم خياله ليختبر اللّفافات. "دورك" قال عمار. جلس على كرسي والمسند أمامه، اتكأ عليه ومد يده اليسرى. بدأ عمار بشريط أبيض لاصق مر به على رسغه ومن ثم براجمه، ثم أتى بالّلفاف المعتاد ولفّه بعناية حول رسغه ثم حول براجمه مرات عدة. طلب منه فتح قبضته وإغلاقها ثم سأل إن كان اللفاف ضيقاً فأجاب بالنفي. عاد ومرر اللفاف من بين أصابعه ثم صنع علامة إكس خلف يده وهو يلفّ من براجمه إلى رسغه وبالعكس. لفّه بتأن وإتقان، حريصاً أن يكون ضيقاً بما يكفي لحماية الرسغ والبراجم دون أن يضيّق على الشرايين فتتخدّر الأصابع. بعد ذلك، جاء بشاش بعرض قبضة اليد مطوي مرات عدة ووضعه على براجم سائد ثم طلب منه أن يثبّته في مكانه بيمناه، ثم لفّ عليه عدة مرات قبل أن يعود إلى الرسغ وينهي ما تبقى من اللفاف هناك. أحكم اللفاف بلاصق أسود من ذاك اللي يستخدمه المواسرجية. تناول لاصقاً آخر أبيض صغيراً وشقَّ قسماً منه، ثم شقّه بالطول من منتصفه ووضع قطعاً منه طويلة رفيعة بين أصابع سائد بحيث تُبقي اللفاف مشدوداً عكس اتجاه أصابعه. أخيراً أخرج مقصاً كبيراً بطرف معقوف دسه تحت لفافات سائد من جهة باطن يده وقصّ مثلثاً قاعدته عند منبت أصابعه، فشعر سائد بالهواء على كفه المعروق البارد. أمسك عمار بطرف اللفافات وثناها على بعضها بحيث أصبحت كالحبل في اليد، تلتف حولها الأصابع لتشكّل قبضة ضيقة.


*مقطع من رواية "كل المعارك" الصادرة حديثاً عن "الكتب خان" في القاهرة. أنجزت الرواية بدعم أدبي من برنامج آفاق لكتابة الرواية الذي أقيم بالشراكة مع محترف نجوى بركات في دورته الثالثة.

دلالات

المساهمون